دراساتصحيفة البعث

تنامي ظاهرة العنف المسلح في بلاد العم سام

محمد نادر العمري

كانت عمليات إطلاق النار غائبة إلى حدّ كبير عن العناوين الرئيسية داخل الولايات المتحدة الأمريكية أثناء فترة وباء “كورونا”، قبل حادثتي إطلاق النار اللتين شهدتهما الولايات المتحدة شهر آذار من العام الحالي، غير أن الناس في الواقع كانوا يموتون قتلاً بالرصاص باستمرار، وبأعداد قياسية داخل ولايات هذا البلد، الذي يزعم الديمقراطية والقوة العظمى، ولكن نتيجة تأثير جائحة كورونا وفترة الانتخابات الرئاسية وماتلاها من تسلم وتسليم للسلطة، أدى ذلك لإغفال عناوين القتل المستمرة.

وبحسب بيانات موثقة لدى “واشنطن بوست” أودى عنف السلاح بحياة 20 ألف أميركي في عام 2020، أي أكثر من أي سنة في العقدين الماضيين، كذلك قضى خلال الربع الأول من هذا العام نحو 24 ألف أميركي انتحاراً بالسلاح، وتحصل الغالبية العظمى من هذه الجرائم بعيداً عن الأضواء في البلاد لتبقى محصورة في المنازل أو في شوارع المدن، وتؤثر، كما كارثة الوباء، بشكل أساسي على مجتمعات أصحاب البشرة الملوّنة.

وقد تجدّدت مؤخراً عمليات إطلاق النار، التي وقعت منتصف شهر آذار، في منتجعات منطقة أتلانتا وفي متجر للبقالة في كولورادو، التي أدت إلى مقتل 18 شخصاً مجتمعين، وتعالي الأصوات الأمريكية المندّدة بتسيّب السلاح وبيعه دون قيود، وللإشارة إلى خطورة العنف المسلح كظاهرة متنامية لا يمكن إغفالها. وهو ما دفع  مجموعة “ساندي هوك بروميس” العاملة في إطار منع العنف بالأسلحة النارية إلى القول: “لا يمكن إنكار أن هناك مجتمعات عديدة في جميع أنحاء هذا الولايات المتحدة تتعامل مع العنف بشكل مستمر في مجال الأسلحة النارية، إذ بات هذا العنف يشكل جزءاً من حياتها اليومية وفي ظل عدم تسليط الضوء والاهتمام الوطني على هذه الظاهرة فإنها ستبقى مستمرة، وأنها في ازدياد حالياً وبنسب مرتفعة، وهناك العديد من العوامل والظروف المساعدة على ذلك”.

جامعة “ولاية كليفلاند” بدورها وفي دراسة حديثة لها قالت: “إن أكثر من 100 أميركي يقتلون في اليوم الواحد، بسبب العنف بالأسلحة النارية (تشمل هذه الأرقام حالات الانتحار) غالبيتهم في المجتمعات ذات البشرة الداكنة”. وأضافت في سياق دراستها: “الحكومة والإعلام الأمريكي لا يركزان بصورة أساسية على قضية عنف السلاح إلا لدى وقوع إطلاق نار جماعي، لكنها مشكلة مستمرة ومزمنة وتؤثر بشكل كبير على وحدة النسيج المجتمعي”.

ولتأكيد ذلك، فقد تجاوزت وفيات إطلاق النار في عام 2020 أعلى معدل لها، إذ فاقت المعدل الأعلى الذي كانت قد سجلته عام 2017، بأكثر من 3 آلاف و600 حالة وفاة، ويترافق هذا الارتفاع مع ظواهر خطيرة أخرى، إذ شهدت الولايات المتحدة، العام الماضي، أعلى زيادة في جرائم القتل خلال عام واحد منذ بدأت بالاحتفاظ بالسجلات، فعرفت أكبر مدن البلاد ارتفاعاً بنسبة 30% في هذه الجرائم، كما ارتفع عدد الإصابات الناجمة عن إطلاق النار بشكل كبير، ليلامس 40 ألف إصابة أي أكثر بـ8 آلاف مقارنة بالعام 2017.

ويقول الباحثون الاجتماعيون والنفسيون: إن وباء كورونا غذّى هذه الظاهرة بطرق عديدة، كما أدى انتشاره إلى عرقلة جهود مكافحة الجريمة وإلى تفاقم البطالة والإجهاد، في وقت أغلقت فيه المدارس وغيرها من البرامج الاجتماعية أبوابها أو أصبحت عن بعد، كما أشاروا إلى الانهيار الواضح في ثقة الشعب بإنفاذ القانون، عقب قتل الشرطة لـ جورج فلويد في مينيابوليس. في حين يؤكد البعض الآخر أن منسوب الكره والعنصرية الذي أفرزته الخطابات السياسية في عهد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وانتشار المرتزقة وتنامي الميليشيات تحت مسمّى “شركات الحماية الأمنية” أدى لزيادة ارتفاع منسوب العنف التسلحي.

كذلك نتج عن الوباء وعن الاحتجاجات المناهضة لعنف الشرطة زيادة كبيرة في مبيعات الأسلحة النارية، ففي عام 2020 اشترى الناس نحو 23 مليون قطعة سلاح، أي أكثر بـ 64٪ مقارنة بمبيعات عام 2019، وفقاً لتحليل “واشنطن بوست” للبيانات الفدرالية حول خلفية الأسلحة.

وهذا يشير وفق مختصين في الشأن الأمني إلى أن هذا “الفيضان” من الأسلحة النارية هو العامل الأكثر تأثيراً في انتشار ظاهرة العنف المسلح داخل أميركا، وقد وصفت إحدى الدراسات الحديثة العنف بالأسلحة النارية بأنه “أزمة صحية عامة ممتدة على مدى عقود من الزمن”. ووجد تحليل للبيانات من مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها أن الذكور من أصول أفريقية الذين تتراوح أعمارهم ما بين 15 و34 عاماً شكلوا نسبة 37 في المئة من جرائم القتل بالأسلحة، على الرغم من أنهم يمثلون 2 في المئة فقط من مجمل سكان الولايات المتحدة، وهو معدل أعلى بـ20 مرة من الذكور البيض في العمر نفسه، وهو ما يشير في المقلب الآخر إلى تأثير الواقع المعيشي وفوارق الطبقات والتمييز العنصري على تنامي هذه الظاهرة.

وأكثر من ذلك، لم توفر موجة إطلاق النار الشباب والأطفال حتى في جميع أنحاء الولايات الأمريكية، فقد أودى إطلاق النار بحياة نحو 300 طفل في عام 2020، وفقاً لبيانات أرشيف العنف ضد الأسلحة النارية، وهو ما يمثل زيادة بنسبة 50 في المئة عن العام الذي سبقه، وقد قتل أو أصيب أكثر من 5 آلاف ومئة طفل ومراهق بعمر 17 سنة، في العام الماضي، أي أكثر من 1000 حالة مقارنة مع أي عام آخر منذ العام 2014.

وتعدّ هذه الزيادة صادمة لدى المختصين والمتابعين والموثقين، ولاسيما أنها سجلت في عام لم يكن فيه معظم الأطفال يتردّدون إلى الصفوف شخصياً، أي إنهم تجنبوا إطلاق النار المميت في المدارس، ويقول الخبراء إن هذه الظاهرة تسلّط الضوء على خطورة الانتحار والعنف المنزلي.

والجاذب للانتباه في هذا السياق، أن معدل إطلاق النار الجماعي في عام 2020 كان واحداً كل 73 يوماً، مقارنة بواحد كل 36 يوماً عام 2019، وبواحد كل 46 في عامي 2017 و2018.

وبالتالي يخبرنا ارتفاع معدل عنف السلاح في ظل انخفاض عمليات القتل الجماعية بالأسلحة، أن هذه الأحداث التي يجري تسليط الكثير من الأضواء عليها لا تمثل إلا نسبة صغيرة من الوفيات بسبب الأسلحة النارية في الولايات المتحدة.