الحب.. لا مواسم ولا تواريخ!!؟
الحب، كضربة الشمس، أو انفلونزا المفاصل، أو الجفاف، أو حمو الصيف، هذا ما سمعته من أهل الخبرة، فأنا في هذه الأمور، على رأي المثل (مثل القطة المغمضة)، وعلى ما سمعت من أهل الخبرة فإنه بلا مواعيد محدّدة سلفاً، لا مواعيد له وقد يأتي في الفصول الأخرى، لا يوجد -بالطبع- ما يمنع حدوثه على مدار السنة.
هنا بالذات، تكمن خطورته الحقيقية، هنا حيث إنه بلا مواسم، كالبرتقال، أو العنب، أو التفاح، أو أطواق الفل، أو الياسمين، لا مواسم له ولا تواريخ متفق عليها في أطاليس الرياح، أو كتب الفيضانات، أو دواوين المطر، فجأة يشعر الإنسان بأنه مختلف، وأن اضطراباً ناعماً بقدر ما هو عاصف يسري في خلايا جهازه العصبي، وأنه يرى ذاته بصورة جديدة، كما أن من الصعب جداً مداراة أعراضه، إذ يظهر على ملامح الوجه، فكيف لنا أن نخفيه، النظرة تعترف بأن صاحبها يريد أن يحتضن الدنيا بعينيه، ولا تتمكن حركة اليدين والذراعين أو طريقة السير أو الجلوس أو الحديث عن الكذب، العاشق تفضحه الجبهة التي تصبح لافتة كتلك المعلقة على نواصي الشوارع، لافتة مكتوب عليها أن ثمة انفجاراً حالماً قد وقع، وعلى ما سمعت فإن تشخيصه أسهل بمراحل من أن يحتاج إلى طبيب، فالعارفون بتلك المسائل يؤكدون أنه أوضح من الزكام أو لوثة التطرف أو الغباء أو فقر الروح أو دعارة الفكر، وعلى ما سمعت أيضاً فإن المرضى يقاومون الشفاء وأن غير المصابين يكثرون من التواجد في أماكن الإصابة، ولا علاج له إلا بالمزيد منه، على أن العارفين بتلك المسائل يذهبون إلى أنه غالباً ما ينتشر في الصيف، وعلى ما سمعت من أهل الخبرة أيضاً، فإن الشمس، يرجع إليها، حين تسطع، الفضل في مضاعفة القدرة لدى الشخص العادي جداً على التمييز بين درجات الألوان، الرمادي الغامق يكتسب في لمح البصر نوعاً من الوردية أصفى آلاف المرات من تلك التي يتمتّع بها الورد، لا أحد يدري لماذا أصبحت الأزهار بلا مقدمات توزع العبير دون مقابل، بل إن العارفين بتلك المسائل يؤكدون، أن الكون بأكمله يكون واقعاً في حالة حب، فلا رياح تقسو على الشجر، ولا الرعود تعلن الحرب ضد هدأة الليل.
الأسطورة الهندية تشير إلى أن (قوس قزح) لا يستعيد ألوان الطيف التي هربت من بين أنامله في ذؤابة المطر إلا حين تكون قد بدأت في مكان ما من كوكب الأرض قصة حب، وعلى كراسي البلاج يسترخي ملايين البشر، كالمشدودين إلى خلف منحني الرؤية لينظروا إلى الأفق حيث يلتقي البحر بالسماء، وقد راحوا يسترجعون ذكريات بعيدة عن همسة أو كلمة أو حكاية قصيرة عاشوها كسحابة صيف مثل عشرين عاماً أو يزيد هناك عند البراميل أو فوق سطح الجزر القريبة، تدانت الرؤوس -ذات مرة- لكي تتعامد القلوب التي ارتفعت سرعة نبضها بين الموج، تظل تدوي في الآذان نداءات باعة التين الشوكي أو الفريكا، أو الذرة المشوية.
تصاوير زاهية تعبّر عن الخيال كشريط سينمائي فإذا الزمان يفقد منطقيته كأن عقارب الساعة قد تمرّدت لتقف عند لحظة معينة، تتلاشى في لمح البصر كل السنوات التي مرت ما بين قصتي حب، كل تلك السنوات التي تبدو كالوقت الضائع ما بين ارتعاش تينترجات شغاف القلب، ثم لا تبقى سوى غصة في الحلق أو دمعة تطل من العين، كما لو أنها تريد أن تسقط في السر دون أن يراها أحد. وعلى ما سمعت من أهل الخبرة فإن الجميع لحظتها يعودون أطفالاً.
د. رحيم هادي الشمخي