ثقافةصحيفة البعث

ثوقيديدس وطاعون أثينا

يذكرنا فيروس كورونا دوماً بهشاشة الوجود البشري أمام الأمراض القاتلة، إذ أصبحت كلمات مثل “الوباء” و”الجائحة” (و”الذعر”) جزءاً من أحاديثنا اليومية.

يعود أصل هذه الكلمات إلى اليونان القديمة، وهي تشير إلى أن الإغريق منذ القدم فكروا كثيراً في المرض، سواء بمعناه الطبي البحت أم كمعنى مجازي لتسيير الشؤون الإنسانية. ويبرز ما أطلق عليه الإغريق “الطاعون” (لويموس [loimos]) في بعض نصوص الأدب الإغريقي البارزة.

من بين الأمثلة ملحمة هوميروس “الإلياذة” (حوالي 700 قبل الميلاد) التي تبدأ بوصف الطاعون الذي يصيب جيش الإغريق في طروادة، بعد أن أهان أغاممنون، الأمير البارز في الجيش الإغريقي، كاهناً محلياً في معبد أبولو [أفلون] اسمه كريسيس، فيعاقب أبولو كل الإغريق بإنزال الطاعون بهم، فهو إله الوباء والشفاء، وهو إله الرماية أيضاً، وقد صور وهو يطلق السهام على جيش الإغريق بمفعول رهيب:

“فرغ الشيخ فاستجاب أفلون         بأعلى الأولمب وانقض حالا

حاملاً وهو مزمهر على كتـــ          ــفيه قوساً وجعبة ونبالا

حانقاً كلما خطا ارتجت النَّبــ         ـــل عليه كالليل بالهول مالا

ورمى الفلك من بعيد بسهم        من لجين فزلزلت زلزالا

ضرب الغضف والبغال فألقى         شرَّ سهم فجندل الأبطالا

فتولت نيران موتاهم إثـــ            ـــر وباء بالفتك تسعاً توالى”

حكايات الوباء

بعد نحو 270 عاماً تلت الإلياذة، بات الطاعون محور عملين كلاسيكيين عظيمين في أثينا، أحدهما “أوديب ملكاً” لسوفوكليس، والآخر “تاريخ الحرب البيلوبونيسية” للمؤرخ الإغريقي ثوقيديدس. وربما كان ثوقيديدس (قرابة 460 إلى 400 ق.م) وسوفوكليس (490 إلى 406 ق.م) يعرفان بعضهما في أثينا، على الرغم من أنه يصعب الإضافة على ذلك بسبب نقص الأدلة، لكن العملين المذكورين أعلاه صدرا في الوقت نفسه تقريباً، ويرجح أن مسرحية أوديب صدرت حوالي 429 ق.م، وحدث وباء أثينا في 430 إلى 426 ق.م.

استخدم ثوقيديدس في كتابته النثر، لا الشعر (الذي استخدمه هوميروس وسوفوكليس)، وعمل في مجال حديث نسبياً من “التاريخ” (والمقصود هنا “الاستفسار” أو “البحث” باللغة الإغريقية). وصب تركيزه على الحرب البيلوبونيسية بين أثينا وإسبرطة وحلفائهما، بين 431 و404 ق.م.

ويعد وصف ثوقيديدس للطاعون الذي ضرب أثينا عام 430 ق.م أحد أعظم النصوص في الأدب الإغريقي، وأحد الأمور الرائعة فيه هو مدى تركيزه على الاستجابة الاجتماعية العامة للوباء، سواء من مات بسببه أم من نجا منه.

أزمة صحية

يتبع وصف الطاعون على الفور وصف ثوقيديدس الشهير لحفل تأبين بريكليس (وهو سياسي أثيني توفي بفعل الطاعون في عام 429 ق.م، في حين أصيب ثوقيديدس به لكنه نجا).

يقدم ثوقيديدس سرداً عاماً للمراحل المبكرة من الطاعون، منشؤه المحتمل في شمال إفريقيا، وتفشيه في أثينا، ومعاناة الأطباء في التعامل معه، ومعدل الوفيات المرتفع للأطباء أنفسهم.

ولم يبدُ أن شيئاً قد خفف من حدة الأزمة، لا المعرفة الطبية ولا غيرها من أشكال العلم ولا الصلاة ولا العرّافون. في الواقع ” قهرت الآلام الناس في النهاية حتى إنهم لم يولوا مزيداً من الاهتمام لمثل هذه الأمور”.

ويصف ثوقيديدس الأعراض بشيء من التفصيل: شعور بالحرقة وآلام بالمعدة وتقيؤ ورغبة بالتعري الكامل وأرق وقلق.

تبدأ المرحلة التالية بعد سبعة أو ثمانية أيام إذا نجا المصابون بهذه المدة، فينتقل الوباء إلى الأحشاء وأجزاء أخرى من الجسم- الأعضاء التناسلية وأصابع اليدين والقدمين، حتى إن بعض الناس أصيبوا بالعمى:

“تعجز الكلمات عن رسم صورة شاملة لهذا المرض؛ وأما عن معاناة الأشخاص، يبدو أنها تفوق قدرة البشر الطبيعية على التحمل”.

ولم ينج أصحاب البنية الجسدية القوية، مثلهم كمثل ضعيفي البنية.

“كان القنوط أفظع شيء يقع فيه الناس عندما يدركون أنهم أصيبوا بالطاعون؛ لأنهم سيفقدون على الفور الأمل نهائياً، وحين يستسلمون بهذه الطريقة، يفقدون القدرة على المقاومة والصمود”.

أخيراً، يركز ثوقيديدس على انهيار القيم الموروثة حيث حلّ الانهماك في الشهوات محل الشرف، وحين يصل المرء إلى ذلك ينعدم خوفه من الله ومن البشر:

“أما عن الجرائم التي تنتهك القانون الإنساني، فلم يتوقع أحد أن يعيش طويلاً بما يكفي ليمثل أمام المحكمة ويعاقب، بل شعر الجميع أن حكماً أشد وطأة قد صدر بحقهم”.

يستمر وصف الطاعون بالكامل في الكتاب الثاني حوالي خمس صفحات فقط، مع أنه ذكر بعد ذلك، فقد دام الطاعون لأول مرة لمدة عامين، ثم تفشى مرة أخرى، لكن بضراوة أقل. ولمّا استأنف ثوقيديدس وصفه للطاعون بعد صفحات قليلة، ذكر عدد الضحايا: 4400 من المشاة، و300 فارس وعدد غير معروف من العامة.

نظرة حديثة

يختلف الباحثون الحديثون حول كل ما سبق ذكره لأسباب ليس أقلها أن ثوقيديدس يقدم قدراً كبيراً من التفاصيل عن الأعراض، ويميل كثير منهم إلى مرضي التيفوس الوبائية والجدري، ولكن افترضوا أيضاً احتمالية انتشار نحو 30 مرضاً مختلفاً.

ويقدم لنا ثوقيديدس سرداً عن وباء يختلف في جميع النواحي عما نواجهه الآن، لذا ستأتي الدروس التي نتعلمها من أزمة فيروس كورونا من تجاربنا معه، وليس من قراءة ثوقيديدس، لكن الدروس لا تنحصر بالأمراض فحسب، إذ يقدم لنا ثوقيديدس وصفاً لدولة مدنية تمر بأزمة، وهي الآن قوية كما كانت في 430 ق.م.

ترجمة: علاء العطار