عندما يذهب الشهداء إلى النوم
د. نضال الصالح
تتهجّى ميّ الحروف الأربعة: (شين، هاء، ياء، دال)، وما إنْ تبلغ الحرف الأخير، حتى تتلعثم روحها بالكلمة مقطّعة الأوصال شأن جسد أبيها المسجى داخل نعش، ثم تجهش في بكاء مقطّع الأوصال شأن دميتها مقطّعة الأوصال التي ظلّت تحتفظ بها بعد ذلك اليوم الذي انهمرت القذائف في ليله البارد، وحوّلت البيت إلى جسد مقطّع الأوصال.
تعيد تهجية الحروف، ثم تستعيد صوت معلّمة الصفّ أمس: “وفجر السادس من أيار سنة ألف وتسعمئة وست عشرة استيقظت دمشق على مشهد لم تعرفه ساحة المرجة من قبل. سبع مشانق تتدلّى منها سبعة أجساد لرجال كان جمال باشا السفاح أصدر أمراً بإعدامهم، وكان السفّاح يتابع وقائع الإعدام من شرفة العابد المطلة على الساحة”.
تعدّ ميّ على أصابعها من الواحد إلى السبعة، وما تكاد تبلغ الأخير، حتى تتهجّى روحها أعداد الذين حُملت أجسادهم على نعوش من غير مكان من البلاد طوال سبع سنوات، ثم أعداد أولئك الذين قضوا في ذلك اليوم، الخامس والعشرين من تموز قبل نحو ثلاث سنوات، حين دهم عشرات المسلحين والانتحاريين السويداء وسبعاً من قراها.
وبين حشرجةٍ لروحها ببكاء ترتج لشجوه أقطار السموات والأرض وقبضة أمها على كتفها خوفاً من أن تضيع في زحام المشيعين كان صوت المعلّمة يتابع إيقاعه الرخيم في أذنيها: “وفي الحادي والعشرين من تموز سنة ألف وتسعمئة وخمس وعشرين تدفّقت جموع من الثوار ضد الفرنسيين من غير مكان من ريف السويداء نحو قرية الكفر لمؤازرة قائد الثورة في مواجهة قوات الكومندان تومي مارتان، وانتهت المواجهة بنصر مؤزر للثوار، كان من بعض نتائجه سقوط سبعة من ضباط جيش الاحتلال الفرنسي وما يزيد على مئتي من جنوده”.
صوت المعلّمة يهدل بإيقاعه المترف بالشجن أحياناً والفرح أحياناً أخرى، وثمة في القاع من رأس ميّ صورة لا تغادرها منذ ثلاث سنوات، صورة تلك الطفلة من قرية الشبكي التي بقيت وحدها من أفراد أسرتها جميعاً على قيد الحياة في ذلك اليوم الجحيم من تموز مختلف، بينما يتتابع ازدياد عدد المشاركين في التشييع من رجال ونساء حتى تكاد الطريق إلى المقبرة تضيق بوقع حزنهم الجليل على الحصى والأشواك وحفيف توقهم إلى الحياة بين أوراق دوالي العنب البازغة عشقاً للحياة.
ليلاً، لم تعرف ميّ طعماً للنوم، على الرغم من أنّ أمّها كانت تهدهد أذنيها بما يشبه اللازمة: “بابا نايم، الصبح بفيق”. وليلاً كان ثمة صوت يتردد من حيث لا تعرف، ولا تفهم شيئاً منه، ويعاند جوع عينيها إلى النوم، ويترقرق في جنبات روحها كأنّه زقزقة روح قيدَ قيامة إلى الحياة، ثمّ تجد نفسها وقد هُرعت إلى دفترها مرهفة روحها للصوت، وتدوّن ما يبلغها من الكلمات:
عندما يذهبُ الشهداءُ إلى النوم أصحو، وأحرسهم من هواة الرثاء.
أقول لهم: تصبحون على وطنٍ، من سحاب ومن شجر، من سراب وماء.