شهداؤنا.. حقاً ماذا يُقال فيكم؟!
قيل فيكم ما لا تحتمله اللغات برمتها، فأي كلام يُقال فيكم ويفيكم أو يكاد يقارب نبلكم؟! في يوم سام كيومكم، يصبح الكلام بلا معنى، المعاني باهتة والبلاغة ذابلة، ماذا عن التشابيه والصور؟ ماذا عن المجاز والبيان؟ سيكون على الشعراء واللغويين وعلماء الكلام نحت مفردات جديدة ومعان فريدة غير تلك التي صارت راسخة في الوجدان عنكم، وأنتم أعظم منها جميعاً، سيكون على الناس أن يفكروا بالشعر وهم يحاولون الحديث عنكم، سيكون على الشعر أن يرتاد مالم يُعرف بعد من مفردات الخيال، من نظم القوافي وسكب الدلالات، مرة جديدة للحديث عنكم، أي معضلة؟
أي كلمات مهما بلغت درجة كمالها وعظم بليغ نظمها وبيانها، أي كلام يستطيع أن يجود ولو بالنزر القليل من إيفائكم حقكم؟ أنتم يا من أعرتم الله جماجمكم وودتم في الأرض قدمكم، وللوطن بذلتم طهر دماءكم فتزول الدنيا ولا تزولون ولا نزول، وعلى عتبات نظراتكم تقف الكرامة تشحذ معنىً ترتديه بعد أن غيّرتم مرة واحدة وإلى الأبد معنى المجد والكرامة، ليصير الفخر آية في مصحف من نور آلائكم، والكرامة عروس أبدية الشباب، للدهر الذي أنتم من رفع أعمدته الشاهقة وبنى صرحه الخالد.
أي قصيدة أو رواية، أي مقال أو كلام عفوي، بمقدوره أن يطل ولو للحظة على طهركم وأنتم من كتب بالدم وخطّ بأقلام الروح حيوات السوريين كل السوريين، من شرق البلاد إلى غربها ومن جنوبها إلى شمالها.
إن الكلام كل الكلام يتشرّف ويسعد ويحيا خالداً خلود الزمن، وهو يحاول عبثاً أن يضيء ولو لحظة من إشراق وهجكم الطالع من رُبا وجبال هذا الوطن.
اليوم أكثر من أي وقت مضى، تقف أرواحنا على رؤوس أصابعها وهي تتلو أسماءكم المنيرة على مسامع التاريخ بأن سجّل في ديوان الخالدين أن من السوريين رجالاً، وطؤوا الموت بالموت، ومنحوا الحياة جريانها في نسغ كل السوريين، بينما لا تزال أرواحكم تقف على كل الجبهات كما لو أنها صباح الأبد، يبدّد عتمة وحلكة ليالٍ طويلة، كان لها أن تدوم أبداً، نازعة من وجوه أطفالنا وملامح أمهاتنا، علائم البهاء وصيرورة الحياة ولونها ونكهة الفخر فيها، لولا أن قبضتم بأيدي الطهر منكم على كل حبة تراب من هذا الوطن، نعِمت بما لم ينعُم به أي تراب آخر، نعمت بفوح عبقكم الندي ومسك دماءكم الورد وهي تنداح كموّال عذب المطالع، بهيّ القوافي، محيلاً رماد الحروب إلى جنان معلّقة بين السماء والأرض، نرنو إليها اليوم ونقول: أبت أن تذلّ النفوس الكرام، فعليكم السلام.
تمرّ السنون والشهور، تتقلب الأحوال والدهور، وأنتم منذ صبيحة ذلك اليوم الذي نُصبت فيه في كل ساحات الوطن يوم السادس من أيار عام 1916، مشانق الكرامة التي ارتقتها أرواحكم هاتفة “بكتب اسمك يا بلادي ع الشمس الما بتغيب” حتى اللحظة التي ترتسم فيها هذه الحروف، باقون على عهودكم الدامية، لا يطلع فجر علينا إلا إذا أذِنت له دماؤكم بأن يشرق، ولا تغيب شمس أمان على بيوتنا وأرواحنا وأطفالنا، إلا إذا أسدلت فوّهات بنادقكم وحبق ضحكاتكم قميص الليل برداً وسلاماً على كل أشكال الحياة التي عشناها بفضلكم رافعي الرؤوس شامخي الجبهات، مطمئنين أننا إن أسلمنا عيوننا لوسن النوم، فإنكم أنتم الساهرون وأنتم الحماة وأنتم المجد.
قليل عليكم كل الكلام، بخس أمام ندرة أرواحكم كل العطاء، يا مَن ترفعون السماء فوقنا فلا تقع علينا، وتمهّدون طريق الحياة لأولادنا وأهلينا فلا تميد بنا الدروب. هذا كله قيل بل وقيل الأعظم والأجمل والأهم والأصدق منه، فماذا يُقال فيكم؟
تمّام علي بركات