خديعة الأبدية
غالية خوجة
الأكثر خديعة للأبدية من تخدعهم الأبدية، وهم المبدعون في كافة المجالات العلمية والفنية والأدبية والمعرفية. وعبْر الأزمنة، امتلك آلهة الميثيولوجيا “ألواح القدر”، وتحولت المفاتيح إلى أسرار بيد سدَنة وكهنة المعابد، وارتبطت بالسرية التامة المخفية عن العامّة. ومن يتبصّر في هذه الأسرار المفاتيحية يكتشف أنها المعرفة بكافة علومها المعلومة واللا معلومة، وهذا ما دفعتنا إليه أول كلمة مقدسة “اقرأ”، وهي بحدّ ذاتها موج من فوقه موج من تحته موج، وهي تمسك بقلب من يغوص، فلا يجد الشواطئ تحدّ بالكلمة، وتصير المعاني والذوات مراكبَ وسفناً تفكّ رموز وشيفرة الكلمة الأشدّ جاذبية للروح.
كأننا نتذكر معاً “ونفخنا فيه من روحنا”، النفخة فعلٌ لكلمة، و”الكلمة الطيبة كشجرة طيبة”، و”في البدء كانت الكلمة”، لذلك، ليس أجمل من الكلمة الطيبة في بناء الإنسان، لأنها تنيره منذ يكون مضغة، علقة، جنيناً، رضيعاً، طفلاً، شاباً، عجوزاً، وكهلاً، مما يجعل الأسرة والمجتمع عالماً يموج بأضواء الكلمة الهادفة، البنّاءة للقيم والسلوك والبنى الحياتية المختلفة.
لكن، ماذا بين إقرأ والروح؟
هو ما تفهمه بين ذاتك والآخرين نفسياً، وتأملياً، لعلك تصغي لقراءة ذاتك، فتراجعها يومياً، لتكون ذاتك “غداً” أفضل من ذاتك “بالأمس”، سواء مع ذاتك أو مع الآخرين. وهو ذاك الذي تقرأه وليس مكتوباً، لتتكاشف مع حواسك وحدوسك وقلبك الصافي وروحك النقية، مما يجعلك تثق بطاقتك اللا مرئية سواء الكهرومغناطيسية كمجال حيوي علمي، أو بأنواتك كمجال حيوي نفسي، فتتبارز هذه المتحولات معك، وتتبارز معها، مثل “دونكيخوته ثربانتس“، لتجعل الأنا الأعلى تتغلب على الأنا الأسفل، ثم، تجد نفسك محلّقاً أكثر كما المتصوفة من مقام مضيء إلى مقام أشدّ إضاءة، فيتسع مجال ثقتك ليشمل المجال الخارجي المحيط بك اجتماعياً وأرضياً كأنك في برزخ بين الحضور والغياب.
شبكة متداخلة من تنويعات القراءة وتقاسيم الكلمة، تموج بك في عوالمها لتؤكد أن مرايا الخلود ليست العشبة التي سرقتها أفعى “جلجامش”، ولا أسرار الفراعنة، ولا إكسير الحياة، ولا حجر الفلاسفة، ولا أي رمز من رموز الخلود الميثولوجية العالمية، بل هي كلماتك وسلوكاتك المنعكسة عليها، وبذلك تكون أنت مرآة للآخرين، ويكون الآخرون مرآتك، فما يشوبها يجعلك تعيد الإبحار إلى ذاتك لتمحو هذه الشوائب، فتستمر في الغوص والتحليق إلى مفاتيح الضوء وأسرار المعرفة، وترفض الغوص في ظلمات من فوقها ظلمات من تحتها ظلمات، وبإمكان من شبّ على عادات مظلمة، أن يمتلك مفاتيح الضوء ليتخلص من الظلمات الجوانية، فيمحو الصدأ الروحي ليتكون بأشعة جديدة، وبهذا الأثر المشع يدرك الإنسان مفاتيح الخلود، ويكون هو هو في أيّ زمان ومكان، فيذكره الزمان، ولا يتخلّى عنه المكان.
لكن، هل من مفاتيح أخرى لهذه الأسرار؟ وماذا لو عدنا مع آلة زمن “ويلز” إلى الوراء، وقرأنا ما هو مكتوب على معبد “دلفي”؟
ستجيبني مكتوب عليه: “إعرف نفسك”، وهو أحد مفاتيح الحكمة الأزلية. وكأننا نكمل معاً ما لم تقله الحكمة: ومن عرف نفسه عرف الله ومن عرف الله عرف ما له وما عليه.
ستوافقني وتستوقفني: لكنني أريد أن أغيّر العالم. وأنا سأجيبك: هل تذكر حكمة تولستوي: “الجميع يفكر في تغيير العالم ولا أحد يفكر في تغيير نفسه”؟ ينظر كلٌّ منا إلى مراياه، فيكتشف أنّ الأبدية تتلصص علينا لتسترجع من مفاهيمنا أسرار الخلود، وتفتح علينا متاهاتها، لكنك، تسبقها إلى المفاتيح الرمزية، وتبدأ تجوالك بين مرايا ذاتك، مردداً بيت المعري: “خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلاّ من هذه الأجساد”.