دراساتصحيفة البعث

العلاقات الصينية الأوروبية.. أين تقف واشنطن؟

ريا خوري

انعقدت في السابع من كانون الأول الجاري القمّة الـ24 بين جمهورية الصين الشعبية والاتحاد الأوروبي برئاسة رئيس مجلس الدولة الصيني لي تشيانغ وقادة الاتحاد الأوروبي.

وكان رئيس مجلس الدولة الصيني قد ترأس هذه القمّة مع رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل، ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، في العاصمة الصينية بكين، حيث استهلّ السيد لي تشيانغ حديثه بالقول: يتعيّن على الجانبين الصيني والأوروبي أن يظلا ملتزمين بالحوار البنّاء بدلاً من المواجهة وعمليات الاستفزاز، وبالتعاون المشترك بدلاً من فك الارتباط، وبالسلام الحقيقي العادل بدلاً من الصراع، من أجل تحديد اتجاه العلاقات بين جمهورية الصين الشعبية والاتحاد الأوروبي، مؤكداً إن الصين مستعدة للعمل مع الاتحاد الأوروبي للتمسك بالوضع الصحيح والقوي للشراكة الاستراتيجية الشاملة، والبحث عن أرضية صلبة مشتركة مع تنحية الخلافات جانباً مهما كَبُرت، وتعزيز التعاون المتبادل المنفعة والتنسيق المشترك المتعدّد الأطراف، وإضفاء المزيد من الأمن والأمان والاستقرار والإيجابية والمنفعة المتبادلة على العلاقات بين جمهورية الصين الشعبية ودول الاتحاد الأوروبي، وتقديم المزيد من المساهمات لتحقيق الرخاء والتنمية والاستقرار في القارة الأوراسية والعالم أجمع.

لقد أبدت القيادة الصينية في هذا المؤتمر استعداد الصين لاستكشاف المزيد من نماذج التعاون المتبادلة المنفعة مع الاتحاد الأوروبي، والسعي بجدّ لمواصلة ضخ زخم وحيوية جديدين في العلاقات الثنائية.

الجدير بالذكر أنّ هذه القمة هي أول قمة حضورية بين الجانبين منذ أكثر من أربع سنوات، بعد أن عزلت جائحة (كوفيد-19) كورونا الصين عن بقية العالم، وكان عنوان القمّة لافتاً وإيجابياً من خلال محاولة إعادة ترتيب العلاقات بين الطرفين، ولاسيما حالة اختلال التوازن التجاري بين الشريكين، فقد تضاعف العجز في الميزان التجاري الأوروبي مع الصين نتيجة الحالات التي جرت في العالم خلال العامين الماضيين ليصل إلى رقم قياسي قدره أربعمائة مليار يورو العام المنصرم، يرجعه التكتل إلى بعض القيود التي فرضتها جمهورية الصين الشعبية على الشركات الأوروبية وتحديداً بعد نشوب الحرب الساخنة في أوكرانيا.

ويصادف هذا العام الذكرى السنوية العشرين للشراكة الاستراتيجية الشاملة بين جمهورية الصين الشعبية والاتحاد الأوروبي، التي تأسّست في عام 2003. ومنذ ذلك الحين، ازدهرت العلاقات التجارية بين الصين ودول الاتحاد الأوروبي، ففي العقدين الماضيين، زادت نسبة التبادل التجاري بين الجانبين بمقدار عشرة أضعاف لتصل إلى ثمانمائة وسبعة وأربعين ملياراً وثلاثمائة مليون دولار، ما يعني أنه يتم تداول ما يقرب من مليارين وثلاثمائة مليون دولار أمريكي من البضائع بين الجانبين يومياً.

وكان حجم التجارة بين جمهورية الصين الشعبية والاتحاد الأوروبي قد وصل في عام ٢٠١٧م إلى أكثر من مليار ونصف المليار دولار يومياً، ووفق البعثة الصينية المعتمدة لدى الاتحاد الأوروبي دعمت الصادرات الأوروبية إلى الصين حوالي أربعة ملايين فرصة عمل في أوروبا. وبحلول نهاية العام الماضي 2022، كانت الصين قد أنشأت أكثر من ألفين وثمانمائة شركة من خلال الاستثمار المباشر في القارة الأوروبية، ما أدّى إلى خلق أكثر من مئتين وسبعين ألف فرصة عمل محلياً، وفق ما سمّته (أورسولا فون دير لاين) رئيسة مفوضية الاتحاد الأوروبي، (خطاباً تأسيسياً) بشأن جمهورية الصين الشعبية ومستقبل علاقات الأوروبيين معها بمقر مركز السياسة الأوروبية في العاصمة البلجيكية بروكسل في شهر آذار العام الحالي 2023، حيث أكّدت استعادة التوازن الغائب عن العلاقات التجارية والاقتصادية  والتكنولوجية مع العملاق الآسيوي, كما انتقدت المفوضية الأوروبية استفادة الصين من استثماراتٍ أوروبية ضخمة جداً دون التزامها بالمعاملة بشكلٍ متساوٍ. وتسعى المفوّضية الأوروبية لتحقيق التوازن المنشود بين الجانبين، عبر خفض استثمارات الأوروبيين، وتقييد بعض صادراتهم التكنولوجية إلى جمهورية الصين الشعبية، لضمان الحفاظ على شيء من التفوّق المعرفي والعلمي والصناعي، وإعادة التفاوض بشأن الاتفاق الاستثماري المبرم بين الجانبين عام 2020.

لقد سعت دول الاتحاد الأوروبي مراراً لتأكيد حماية الاتحاد وبلدانه الصغيرة، من إقامة علاقات اقتصادية وتجارية متوازنة مع الصين، وكان الحديث قد جرى في أكثر من مناسبة عن ضرورة تطوير العلاقات الاقتصادية والتجارية مع الصين متجاوزين حالات التبعية للولايات المتحدة الأمريكية التي تحاول غرس فكرة سلبية ضد الصين، وهي أن الصين تعمل على إضعاف الاتحاد الأوروبي، لكن الاتحاد الأوروبي قد تجاوز كل تلك الدعوات عن طريق التفاوض الثنائي الأطراف مع الحكومات الأوروبية وخلق تنافس إيجابي بينها، حيث أسّست جمهورية الصين  الشعبية منتدى (16+1) من أجل الالتزام مع ستة عشر بلداً في أوروبا الوسطى والشرقية، ينتمي أحد عشر بلداً منها للاتحاد الأوروبي. ولأن هذه الدول أكثر فقراً، وغالباً ما تعاملهم دول مثل ألمانيا وفرنسا على أنهم أوروبيون من الدرجة الثانية، فهي ترحّب على الخصوص باهتمام الصين واستثمارها، كما تموّل الصين أيضاً اقتصادات أوروبا الجنوبية التي عانت كثيراً من انعدام الاستثمار منذ أزمة منطقة اليورو المتفاقمة، إذ استثمرت على سبيل المثال في ميناء بيرايوس في اليونان، وفي شركات الطاقة البرتغالية.

فعلى الرغم من تحالف الولايات المتحدة الأمريكية الاستراتيجي مع الاتحاد الأوروبي ، فإن هذا لا يعني التطابق الكامل بين سياساتهما فيما يخص جمهورية الصين الشعبية، فالولايات المتحدة الأمريكية تعمل على (فك الارتباط) بين اقتصادها والاقتصاد الصيني كتوجّه استراتيجي بعيد المدى يشمل القضايا العلمية والتكنولوجيا والمعرفة والخدمات والاستثمارات والمنتجات، بينما يتمثل الهدف الاستراتيجي للاتحاد الأوروبي في (تحجيم الخطر) الذي ينتج عن علاقات تجارية واقتصادية واستثمارية ضخمة ومتشعّبة مع الصين. ولتحجيم أي حالة خطر في علاقة الأوروبيين بالصين، يتعيّن عليهم وفقاً لرئيسة المفوّضية رفع معدلات التنسيق التكتيكي والاستراتيجي بين مؤسسات الاتحاد الأوروبي وحكومات الدول الأعضاء لكي تواجه مجتمعةً سياسات (فرّق تسد) التي تبنيها الولايات المتحدة في علاقة الصين مع الاتحاد الأوروبي، والتي تستهدف صناعة الفرقة واستعداء بعض الدول على بعضها الآخر.

في سياق العلاقات الجديدة المتجددة مع الصين، أكّدت فون دير لاين فكرة أنه يتعيّن على دول الاتحاد الأوروبي صياغة سياسة متكاملة (للأمن الاقتصادي)، تتضمّن فرض قيود على الاستثمار في قطاعات معيّنة في العديد من الدول من ضمنها الصين ومنع نقل التكنولوجيا إليها (تحديداً المجالات العسكرية والاستخباراتية والأمنية والصناعات التكنولوجية الفائقة التطوّر كصناعة أشباه المحوّلات والشرائح الذكية)، بحيث يعطّل التنامي المطّرد للقدرات الصينية، وهذا التوجّه جاء بعد طلب الولايات المتحدة الأمريكية، ويشمل أيضاً التقليص المتدرّج للصادرات الصينية في الأسواق الأوروبية، وخاصة بعد الحرب في أوكرانيا والترويج لأهمية مشروع (الحزام والطريق)، إن باستبدالها بصادرات بلدان أخرى (آسيوية وإفريقية)، أو بالتخلي عنها كالمواد الخام التي تأتي إلى أوروبا من جمهورية الصين الشعبية،  وتستخدم في عدد من الصناعات التكنولوجية والتقليدية (النيكل والنحاس  والسيليكون كأمثلة)، وتزول الحاجة إليها ما إن تصير الصناعة الأوروبية بكل أصنافها صناعة خضراء.

إنّ التدخل الأمريكي السافر في العلاقة بين الصين والاتحاد الأوروبي أوجد حالةّ من البطء التي تعود إلى أسباب أخرى تعرقل تطوّر العلاقات بين الطرفين، مع اعتبار جمهورية الصين  الشعبية من الاتحاد أنها تشكّل منافساً قوياً من الناحية  التجارية والاقتصادية، وهو ما يؤدّي إلى زيادة التوتر في العلاقات بينهما. مع تبنّي الاتحاد الأوروبي رؤية خاصة مفادها (ضرورة إيجاد بديل للصين)، وتخفيض الاعتماد عليها من الناحية التجارية والاقتصادية في عدد من المجالات، كيلا يقع في الخطأ نفسه الذي وقع فيه عندما اعتمد على جمهورية روسيا الاتحادية من ناحية تمويل الاتحاد بالغاز والنفط والمواد الأولية الأخرى.

فقد لاحظت بعض التحليلات أنه لم تكن هناك استراتيجية واضحة للدول الأوروبية في التعامل مع الصين، وذلك نظراً لوجود خلافات بين الدول الأوروبية حول آليات التعامل معها وتشابك المصالح مع الولايات المتحدة الأمريكية، فضلاً عن الضغوط الأمريكية الهائلة على دول الاتحاد الأوروبي، وهو ما يؤثر في العلاقات بين الجانبين.

وعلى الرغم من كل ذلك فإن حرص الاتحاد الأوروبي على عدم فك الارتباط مع الصين في إطار دفاع أوروبا عن مصالحها الاقتصادية والتجارية، وخاصة أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تكن تتصرّف دائماً مع الأوروبيين بطريقة ودية على الصعيد التجاري والاقتصادي، كما أن استمرار التفاوض بين الجانبين يتيح توضيح وجهات النظر وصولاً إلى حلول وسط ترضي الطرفين.