الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

رحيل ذاكرة وطن

عبد الكريم النّاعم

رحل المناضل والروائي محمد إبراهيم العلي، هذا الاسم الذي ملأ فضاء الأحداث في زمنها.

محمد إبراهيم العلي الشهير بأبي ندى، ضابط المظلاّت، معلّم الصاعقة، مدير مكتب الفريق لؤي الأتاسي الذي كان رئيساً لمجلس قيادة ثورة آذار 1963، قائد الحرس القومي، قائد الجيش الشعبي برتبة وزير، بعد الحركة التصحيحيّة.

كثيرون هم الذين يرحلون هذه الأيام، بيد أنّ بعضهم يغيب بعد دفنه إلاّ من ذاكرة أهله وأصدقائه، وبعضهم يغيب جسداً، ويترك خلفه إرثاً لمن يتمثّله من الأجيال القادمة.

الحركة العسكريّة التي قامت في حلب عام 1962، والتي فشلتْ لأسباب ليس هذا مجال الخوض فيها، هذه الحركة حُوكم ضباطها من قِبَل قضاء الانفصاليين العسكري، وصدرت بحقهم أحكام جائرة، ولكنّ أجْورَها كان حكم أبو ندى الذي حُكم بالإعدام، ويرى البعض أنّ تقديم ميعاد ثورة الثامن من آذار 1963 يوماً أو أكثر كان أحد أهدافه إنقاذ رأس أبي ندى.

حين تتّسع المساحة يحتار الإنسان من أين يبدأ، فلقد ربطتْنا صداقة امتدّت منذ عام 1963 حتى رحيله قبل أيام.

لقد كان صادق الانتماء للفلاّحين وللشرائح الاجتماعيّة الفقيرة في المدن، ولم يتخلّ عن ذلك، ولا شكّ أنّ هذا الارتباط الوجدانيّ هو الذي دفعه لكتابة رواياته، بأجزائها، فرصد فيها حالة المجتمع في سوريّة، بدْواً ريفاً ومدينة منذ أواخر الاستعمار التركي حتى وقتنا الحاضر، فضح الإقطاع وظلمه، والسماسرة والمرابين، بلغة سهلة أقرب إلى الحديث الشعبي الذي نتناوله، ولست بصدد تقييم رواياته فنيّاً، فقد كتبتُ عن ذلك ذات يوم، وبهذه المناسبة أذكر أنّه رُوي لي أنّ السيد الرئيس حافظ الأسد استقبل أعضاء القيادة والجبهة بمناسبة وطنيّة، وكان أبو النّدى أحد المدعوّين، وكان الرئيس يحبّه، فأراد أحد الموجودين أن ينال من قيمة روايات أبو النّدى، فسأل الرئيس قائلاً: “سيدي هل اطّلعتَ على ما يكتبه أبو النّدى”؟ فقال له الرئيس رحمه الله ما معناه ما يقوم به أبو النّدى هي مهمّة حزب، يقوم بها بمفرده، فكان كلامه وساماً.

عمل في منظمة الصّاعقة، وكانت علاقته بالمنظمات الفلسطينية جدّ وثيقة، حتى أنّه ذهب إلى الأغوار في الأردن أيام زهوة المقاومة، وبقي بضعة أشهر، حتى جاء الرئيس عرفات وأركبه معه بسيارته وعبر به الحدود الأردنيّة، بطلب من الأسد الأب الذي كان وزيراً للدفاع.

كانت علاقته مع الاتّحاد السوفييتي متينة، وهم يجلّونه ويحترمونه، وكان حين يصل إلى موسكو، ولو بزيارة شخصيّة، تنشر “البرافدا” في صفحتها الأولى خبر وصوله، ومُنح عدّة أوسمة، وشهادات فخريّة من قبلهم، وترجمت بعض رواياته إلى الروسيّة، ولا أذكر منها إلاّ روايته “التحوّل الكبير” والتي رصد فيها قيام سدّ الفرات.

كان بيته ملتقى بعض القيادات حين يدبّ اختلاف، ولعلّ من أبرز ما كتبه كتابه “حياتي والإعدام” بأجزائه الأربعة، وقد رصد فيه، تطوّرات الأحداث في سوريّة، منذ أواخر أيام الاحتلال التركي حتى وقتنا الراهن، وكان صادقاً، وجريئاً فيما كتب، ومُنصِفاً، فأنصف أسماء ضباط كانت لهم أهمّيتهم في قيام ثورة آذار، وأحيلوا على المعاش خلال بعض الخلافات التي جرت في الحزب آنذاك، فأنصفهم وهم خارج مواقعهم، وأعتقد أنّ كتابه هذا خير تأريخ حتى لجزئيّات لايعرفها إلاّ الذين عاشوها، وفيها من الصدق، ما قد تفتقر إليه كتابات أخرى صدرت في هذا الشأن، وفيه الكثير من إلقاء الأضواء على ما لا يعرفه إلاّ الأقلّون، ممّن كانوا يتحرّكون في الدّائرة العليا، ويكتشف من خلال ذاك أنّه ما من تحرّك عسكريّ جرى قبل الحركة التصحيحيّة، إلاّ وكان لأبي النّدى دور تنفيذيّ بارز فيه،  ولم يتخلّف عن مساعدة مَن قصده من ذوي الحاجات، مادام ذلك بمُكنته.

لقد ظلّ في منصبه قائداً للجيش الشعبي برتبة وزير حتى طلب هو من السيد الرئيس بشار الأسد أن يُحال على المعاش.

أبا النّدى، لو أردتُ أن أبسط الكلام لاحتجت إلى مساحات أكبر، رحمك الله، ها أنت يعودون بجثمانك إلى “حورات عمّورين” قريتك، فتغادر هذه الدنيا نظيف اليد، والوجدان.

موجِع رحيلك يا “خال” كما كنّا نناديك…

aaalnaem@gmail.com