“الحسناء والوحش” و”عروس النمر”: أكون أو لا أكون !!
“البعث الأسبوعية” ــ ترجمة: علاء العطار
تتعمق حكاية “الحسناء والوحش” لمؤلفتها جين ماري دي بومونت وحكاية “عروس النمر” لأنجيلا كارتر في طبيعة المرأة والرجل والعلاقة بينهما من خلال استكشاف وتحليل موضوعتي الهمجية والتحضر، فتصور “الحسناء والوحش” النساء كدافع للتحضر في علاقتهن مع الرجال، الذين يستسلمون لـ “وحشيتهم”، فيفتحون الباب لجانبهم الحيواني، أما في “عروس النمر” فالعكس هو الصحيح، فالنساء هنّ اللاتي يفتحن الباب للوحش القابع بدواخلهن في علاقتهن مع الرجال، بدل أن يكنّ دافعاً للتحضر.
يتضح هذا في العلاقة بين الحسناء “ممثلة النساء” والوحش “ممثل الرجال”، وبصورة أقل في علاقة الحسناء بوالدها، إذ اختارت الحسناء في حكاية بومونت أن تذهب مكان والدها إلى قصر الوحش لتموت، في حين سلمها والدها في حكاية كارتر للوحش كشرط من شروط لعبة الورق التي خسرها. وهكذا، يتضح من البداية أن وجود المرأة ينطوي على درجة من السلبية والاتكال على الرجل (في هذه الحالة الأب). ومع أنه يجوز القول إن هذه الاتكالية شبه طبيعية، مع الأخذ في الاعتبار أن الرجل الذي يتكلنّ عليه هو الوالد، وأي طفل يتكل على ذويه حتى يتمكن من إعالة نفسه، إلا أن الطريقة التي تتفاعل بها بطلتا الحكايتين مع الشخصية الذكورية الجديدة “الوحش” تتحدث عن فهم المؤلفتين المعلن للعلاقة بين الجنسين.
اختارت الحسناء في حكاية بومونت أن تلقي بنفسها بين مخالب الوحش مكان والدها، بدافع الحنان والاهتمام بأبيها أكثر مما هو بدافع الشجاعة المحضة وعدم الاكتراث بالحياة، ويمكن لحظ ذلك في خوفها عند رؤيتها للوحش: “سألها الوحش إن كانت قد جاءت بمحض إرادتها، فأجابته وهي ترتعد خوفاً بأنه قرارها”. وفي آخر الأمر، بدأت تسترخي تدريجياً أمام الوحش عندما علمت أنها تستطيع الاطمئنان على عائلتها من خلال النظر في المرآة السحرية: “لم تستطع منع نفسها من التفكير بأن الوحش كان لطيفاً لأبعد الحدود وأن ليس هنالك ما يدعوها إلى الخوف منه”.
ونرى أن لطافة الحسناء تنعكس في لطافة الوحش، إذ إنه يعطي الحسناء المرآة السحرية ويتصرف بشهامة تجاهها: “أنت لطيف للغاية.. وإني لمرتاحة جداً لطيبة قلبك وحنانك”.
من ناحية أخرى، لم تكن الحسناء في قصة كارتر خائفة، فقط بل متعقلة ومتهكمة قليلاً: “زاد عطر ميلورد المسكر من ارتباك حواسي […] وكانت هيئته توحي بقلة براعة فجة […] ويحيط به أثير غريب نابع من انضباط فرضه على نفسه […] ويرتدي قناعاً يرتسم عليه وجه رجل بصورة بهية”..
وهنا يكافئ تهكم الحسناء حماقةَ أبيها حين قامر بابنته.
وفي قصة بومونت، يرد الوحش على لطف ورقة الحسناء بدرجة اللطف والرقة نفسها، فلما شعرت الحسناء بالملل أهداها الوحش كتباً وبيانو قيثارياً وقلعة بهية، وهذا يبين ثروته واستقلاليته مقارنة بقلة ثراء الحسناء واتكاليتها. وعندما رغبت في رؤية والدها أعطاها المرآة السحرية التي راقبته عبرها. كذلك عندما كانت تتناول العشاء في بداية القصة، وترتجف لسماعها خطوات الوحش يقترب، نراها تعود إلى دماثتها وتؤكد له أنه سيد القصر وله أن يراقبها وهي تتناول العشاء، ومن المشوّق أن نرى الوحش يرد عليها بقوله: “لا، أنت السيدة الوحيدة هنا”، فيقابلها بدرجة الدماثة والأخلاق نفسها. أضف إلى ذلك، عندما تؤكد الحسناء أن الوحش مسخٌ لكنه يتصف بدرجة حنان شديدة يكاد لا يمتلكها الرجال الآخرون الذين يتمتعون بالوسامة وقلوبهم قاسية، يرغب الوحش بأن يكافئها بمجاملة فيقول:
“أود من صميم قلبي لو أشكرك بعذب الكلام الذي تستحقينه، لكن غبائي لا يتيح لي إلا أن أقول إنني ممتن لك كل الامتنان”.
أخيراً، حتى لو أخافها طلب الوحش يدها للزواج في البداية ورفضته، تجد الحسناء طريقة لطيفة ومهذبة لتشرح له أنها تود لو يقبل صداقتها وحسب، ومرة أخرى يرد عليها الوحش بقدر الدماثة والأخلاق نفسه، فيتوقف عن إلحاحه، حتى إنه سمح لها بالمغادرة لتزور والدها المريض: “لأؤثر الموت على أن أسبب لك الأسى […] سأعيدك إلى أبيك”، وهكذا تنعكس تضحية الحسناء بنفسها في سلوك الوحش.
وعليه، يتضح لنا كيف أن الحسناء هي دافع الوحش للتحضر، بالرغم من أن حاجة الوحش إلى دافع تحضرٍ باهتة للغاية، ولا تسهب المؤلفة في الحديث عنها، ومع ذلك، من الواضح أن عنفه صفة من صفات وحشيته، فهو مستعد لقتل والد الحسناء لمجرد أن الأخير قطف وردة من حديقته. ويبين هذا أيضاً أنه مفعم بالحياة وقادر على السيطرة على نفسه. وهناك جانب آخر من وحشيته أقل وضوحاً ولكن يمكن فك شفرته من التفاصيل الصغيرة، فهو يدع الرجل حياً بشرط أن تأتي إحدى بناته مكانه، ويطلب من الحسناء مراراً أن تتزوجه، كما أن الحسناء تقر عندما تفكر بعرض الزواج: “واحسرتاه […] من المؤسف جداً أنه دميم الخلقة، لأنه بالغ اللطف”. يمكننا أن نستنتج من هذه الأمثلة رغبة الوحش بالحسناء، دون أن يقابلها عند الحسناء الرغبة نفسها، وهو الأمر الوحيد الذي يمنعها في الواقع من قبول عرضه، فهي تستلطف شخصيته بالفعل. وبالتالي، تتعلق وحشية الوحش بميله إلى العنف ونشاطه الجنسي وذكورته.
أما الوحش في حكاية “عروس النمر” فهو نمر يكسو الفرو جسمه، ويجتمع بين كتفيه لبدة كثيفة، وطباعه شرسة، ومجهز بمخالب للصيد والقتل: “جثم النمر كوحش مهيب [في غرفة مليئة بالعظام]، ووعدني أنه بموجب الاتفاق الذي أبرمه بضراوته لن يلحق بي أي أذى، ثم أخذ يخطو بين العظام الملطخة بالدماء والمليئة بآثار القضم”. لكن وحشيته قد تدل أيضاً على فاعليته الجنسية، فرغبته في رؤية الحسناء عارية و”العطر البري الكثيف الفاخر” الذي “نقع الوحش نفسه فيه” في أول مرة رأته الحسناء فيها، واستمر في وضعه بعد حلولها ضيفة في قلعته المتداعية هي علامات ورموز بليغة لفاعليته الجنسية، فهو إذاً نشط ومستقل ومسيطر على نفسه.
لكن الحسناء في قصة أنجيلا كارتر لا تقوم بدور دافع الوحش للتحضر، فهي تدرك “طبيعة وحشيته الحقيقية”، وعندما فكرت في هذه المسألة، تبادر إلى ذهنها حكايات الزمن القديم عن الخادمات اللاتي يحبلن خارج إطار الزواج. إنها تسلّم بذكورته ولا تخاف منه، بل إنها تتبناه تدريجياً وبجرأة، ولم تتردد في الانجذاب إليه، بفعل ذكورته بشكل خاص، و”وحشيته” بشكل عام. مع أنها ازدرت في البداية مظهره وتصرفاته “على الرغم من أناقة الوحش الجذابة”، وقناعه المصبوغ بشكل بهي، ونبله عندما قدم لها وردة في غير موسمها.
يلعب الوحش لعبة ورق مع والد الحسناء ويظفر بها، وهو شخص مستقل فاحش الثراء ويتجول برفقة خادم، على عكس الحسناء السلبية والاتكالية. لكن الحسناء لم ترتجف خوفاً من الوحش، بل كانت غاضبة وحسب من معاملتها ككيس نقود، أو كأي غرض مادي آخر، ويتضح هذا عند تصويرها تحمل مرآة سحرية ترى فيها والدها وتعرب عن اشمئزازها منه: “لم أر فيها وجهي، بل وجه والدي […] يالك من أحمق واهم، أما زلت تنوح؟ أتقارع الخمر أيضاً؟”. أضف إلى ذلك أنها تمسي شخصاً نشيطاً وقادراً على التحكم بنفسه، بالرغم من أنها أـسيرة، كما أنها تتعلم الكثير عن فاعليتها الجسدية.
عندما يطلب الوحش في حكاية “عروس النمر” من الحسناء أن تمثل أمامه حتى تتحرر ينتابها الضحك: “لقد قهقهتُ بصوت عال لا يصدر عن سيدة نبيلة شابة! […] لكني أضحك بهذه الطريقة”، ثم تعرض عليه أن ينام معها بطريقة البغايا وتتقاضى أجراً مقابل ذلك، إن أراد الوحش أن يعطيها شيئاً في المقابل. في الواقع، إنها تفعل ذلك لتخزيه، لكن ذلك يبين أيضاً أنها نشطة وتتحكم بشهوات جسدها وتظهر انفتاحها على الحياة الجنسية من خلال ضحكها واقتراحها الذي لا تخجل منه، ولا ترغب التراجع عنه: “أغلقت الصندوق بعد أن ذرف النمر دمعة عندما رفضته أول مرة”. وعندما يطلب منها الزواج مجدداً، تفضل الحسناء أن “أضاجع كل فتى في مزرعة والدي على التبن”، فتجرح قلبه مرة أخرى ويذرف دمعة على شكل قرط. وبتقدم القصة، تستجيب الحسناء بنفس الإيماءة عندما ينزع الوحش قناعه: “قابلتُ صمته الجليل ببشرتي البيضاء، حتى إن الخيول أدارت رؤوسها لتنظر إلى جسدي، وكأن الفضول اعتراها تجاه الطبيعة الجسدية للمرأة”. لربما أرادت الحسناء أن تُظهر له إنسانيتها التي يفتقر إليها، لكنها تنوه إلى النساء على وجه الخصوص وإلى “طبيعة أجسادهن”، هذا يعني أن أنوثتها تتولد من فاعليتها. وصراعها مع هذا النشاط الجنسي الجديد واضح، ولكن الحسناء لا تهرب منه: “لم أكن معتادة على التعري […] ليس التعري من طبيعة البشر، منذ أن أخفينا عوراتنا أول الخلق بأوراق التين”.
بالطبع، تتوافق نهايتا القصتين مع ما قدمت كل منهما منذ البداية، إذ تظل الحسناء في حكاية بومونت سلبية وتتخذ قرارها بالزواج بما يتوافق مع لطفها وحنانها اللذين يمنعانها من إيذاء الآخرين: “أليس من الفظاعة أن أتسبب بحزن شخص عانى كثيراً ليسعدني؟”. كما أنها تستمر أيضاً في كونها دافع تحضر للوحش الذي يتحول إلى أمير، بشري كالحسناء، وأسس زواجهما “على الفضيلة”، ولم يذكر النشاط الجنسي بأي شكل. في هذا الأنموذج، يتخلّق الوحش “ممثل الرجال” ببعض السمات التي أظهرتها الحسناء “ممثلة النساء”، مثل السلبية والاتكالية والكياسة، من خلال انتظاره عودة الحسناء، ثم يتحول إلى أمير، ويتزوج الحسناء على أساس الفضيلة لا الشهوة.
في المقابل، فإن الحسناء في حكاية أنجيلا كارتر نشطة حتى النهاية، وتسيطر على جسدها، ومستقلة بفعل الثروة التي منحها إياها الوحش، فهي التي اختارت الذهاب إلى حجرة الوحش: “دنا مني رويداً رويداً، حتى شعرت بملمس رأسه المخملي الخشن على يدي، […] وكل لعقة من لسانه نزعت طبقة من بشرتي”. ويتحول الوحش إلى بشري في هذه النسخة من القصة، لكن الحسناء تتحول إلى وحش، وتنفتح على حياتها الجنسية وتستمتع بها وتحتضنها. في المحصلة، الحسناء “ممثلة النساء” هي التي تطور تدريجياً سمات النشاط الجنسي، والتحكم في رغبات جسدها، والاستقلالية، والعاطفة المليئة بالرغبة، وهي السمات التي امتلكها الوحش “ممثل الرجال” منذ البداية.