مكتبة جابر.. هضبة عمرها قرن من أزهار وأعشاب وفراشات
“البعث الأسبوعية” ــ غالية خوجة
ستظل حلب تفاجئك بمكنوناتها وأنت تتجول في ذاكرتها العتيقة، لتكتشف حياتها المتجذرة العريقة، وتبوح لك أزقتها المعمّرة بحكاياتها، وكم مرت عليها الأفراح والأتراح، وكيف قاومت الغاشمين والجاهلين والمحتلين والظلاميين والإرهابيين، وانتصرت لحضورها وحضارتها وحاضرها ومستقبلها، لتظلّ معالمها المكانية والزمانية والبشرية علامات للتراث الإنساني.
من هذه العلامات مدينة حلب القديمة المتلألئة مثل جوهرة كونية لا تشبه إلاّ ذاتها، فتتجول في رائحتها المختمرة بالتأريخ، وهي تحيلك إلى بيوتها وأبوابها ذات الطراز الخاص، وحاراتها المتقاربة لتشعرك بأن الساكنين متقاربون في السراء والضراء، بينما أغصان أشجارها المتنوعة فتتدلى فوق جدرانها المعمّرة، تشم عطور الورود، وترى الياسمين الأصفر يغني، وتلمح الفصول تغرد مع العصافير.
بين هذه الحارات والأزقة التراثية المرصوفة بالبازلت الأسود، تعبر من حي الهزازة إلى الجديدة والتلل، وفي أحد المنعطفات التجارية بين هذه الأزقة، ترتصف المحال بأبوابها الخشبية والحديدية بمصراع أو مصراعين أو أكثر، تعرض محتوياتها وبضائعها بين أثاث مستعمل وجديد، وأزياء، ومأكولات ومشروبات وأطعمة، فتتلون الرائحة بنكهتها الحلبية الخالصة، لكن رائحة متفردة تجذبك إليها، فتلتفت لتكتشف أنك أمام أحد هذه المحلات التي تفوح منها رائحة الكتب القديمة، فتمط رأسك من الباب الحديدي الموارب، لترى رجلاً مرت عليه الحروب والازدهارات والانتصارات منشغلاً بهذه الكتب التي اصفرّت أوراقها من تحديها للزمن، واغبرّتْ من بعض السكون المتراكم خلال الفترة الظلامية التي تحدتها بنورها الأزلي. لا فرق بين عمر الكتب وعمر صاحب مكتبة جابر سوى نصف قرن أو أكثر، هو الذي عرفنا عن نفسه مبتسماً:
رزق الله عبد، مواليد حلب 1944، ورثت هذه المكتبة عن أبي جبرائيل عبد الذي كنت أساعده في محبته للكتب والقراءة والمعرفة وأنا طالب، ثم وأنا موظف، ثم بعد التقاعد اخترت صداقة الكتب.
وأضاف: أنا مهندس زراعي، موظف سابق في مديرية زراعة حلب، حاصل على دبلومين، أحدهما في تربية الدواجن، وثانيهما في التعاونيات الإنتاجية، كما عملت عدة دورات تدريبية في الخارج منها في ألمانيا وهولندا، ومختص لغات، وأتقن الألمانية والفرنسية والإنكليزية.
وتابع الرجل الحريص على الكِمَامة الواقية من كورونا، والحريص على الأقلام وهي تطل من جيب سترته:
يتجاوز عمر بعض الكتب عمري، وهي بعدة لغات، منها العربية والألمانية والفرنسية والإنكليزية والأرمينية والروسية والإيطالية. ثم مدّ يده لا على التعيين إلى أحد الكتب، ورفعه من بين هذه الكتلة المتخمة بالكتب والصحف والمجلات، وأخبرني:
تاريخه يعود إلى عام 1966، وعنوانه “الأدب والنصوص والبلاغة”، وزارة التربية، وكما ترين مدون عليه: مخصص لطلاب الصف الأول في المدارس الثانوية ودور المعلمين، المطبعة التجارية بدمشق، وأشار إلى عمق المكتبة التي انحنت أرففها المعدنية من ثقل الكتب المغبرّة، المتراكمة مثل هضبة متنوعة الأزهار والأعشاب والفراشات، لدرجة أنها أخفت هذه الأرفف والجدران وشكّلتْ سقفاً آخر، مضيفاً: تجدين هنا كتباً متنوعة بين الطب والأدب والروايات والشعر والعلوم والزراعة والقصص والخيال.
سألته: لعلني أجد من كتبي أو كتاباتي أيضاً.
فضحك متابعاً: ربما، سأبحث لك عنها ذات يوم.
ومن أجل أن ألتقط له صورة أخرى، وقف أمام باب المكتبة، وحمل مصادفة إحدى المجلات، وكانت عدداً قديماً من مجلة “الحياة المسرحية” التي تصدرها وزارة الثقافة، وبينما يستعد للصورة مرتّباً قبعة رأسه، ممسكاً بالمجلة، قال:
هناك العديد من الدوريات كالمجلات المختلفة، والعديد من الصحف ومنها “البعث” و”الجماهير” و”سالب وموجب”.
لكن، ماذا عن حركة البيع والشراء؟ أجاب رزق الله عبد:
ما زالت حيوية، وللمكتبة أناسها الذين يشترون ويبيعون، ولكل كتاب سعر، وهناك من يطلب كتاباً معيناً، فأبحث له عنه بين الكتب، أو أنتظر لعله يصلني مع دفعة ما.
وعن أثر العشرية الإرهابية، قال:
تأثرنا مثل الجميع، وكنت حزيناً من أجل كتبي أيضاً، لكننا الآن، والحمد لله، أفضل بكثير، وهناك من القراء من يساعدنا على الاستمرار، ويساعد مكتبتنا وكتبنا على المزيد من التفاؤل.
ما زال صوت رزق الله عبد يرنّ بطمأنينته في هذا الزقاق العريق وهو يحدثني بالألمانية التي لا أعرفها، ثم بالإنكليزية التي تحاورنا بها قليلاً، وما زالت رائحة الكتب تفوح في هذا المكان القديم المتفاعل مع يوميات حلب وأهلها الطيبين.
مضيت، وأنا أتأمّل تساؤلاتي عن أناس وثقت بالكتب ووثّقتْ لها، واحتفت بها رغم الظروف المتعبة، وصعوبة الحياة، وهذا دليل على أبعاد عديدة يعكسها الناس البسطاء المحبون للمعرفة والعلم والتعلّم، رغم أنف التكنولوجيا والقراءة الالكترونية، وما يؤكد ذلك، ليس وجود مكتبة جابر وحدها، بل المكتبات المتوزعة في مجمل أحياء حلب، بحيث لا يخلو حي من مكتبة مختصة بالكتب، أو مختصة بالقرطاسية والكتب والهدايا المتعلقة بأدوات القرطاسية والقراءة، وهذا يعني أن القراء جنود مجهولون أيضاً، ولعلهم يفتقدون في هذه الأيام مكتبات الأرصفة كما نفتقدها، تلك المكتبات التي اعتدنا على حضورها في ساحة سعد الله الجابري، وعلى امتداد سور حديقة حلب، وقريباً من الجامعة، كما أننا نفتقد إلى المكتبات الخاصة بدُور النشر، والتي كانت هنا، منذ فترة قريبة، بين العزيزية ورعاية الشباب والسليمانية وغيرها من أحياء حلب.