زمّار الحيّ
د. نضال الصالح
وتمام العنوان “زمّار الحيّ لا يُطرب”، ويُقالُ زامر أيضاً، والزامر اسم فاعل للفعل الثلاثي “زمَرَ”، أي عزفَ على المزمار، وصوابه، حسب ابن منظور في اللسان، زمّار بصيغة المبالغة لا بصيغة فاعل. وهو، حسب كثير من الكتّاب، مثلٌ عربيّ قديم، وليس هذا دقيقاً، فلم يذكره الميداني في مجمعه، ولا العسكريّ في جمهرته، ولا الخوارزميّ في مولَّده، ويُضربُ كناية عمّن لا يُعجبُ قومه مهما أوتي من الإبداع والتفوّق.
أمّا ما ينطوي تحت عباءة العنوان، فهو ما يبدو للمتابع ظاهرة سورية، أو تكاد تكون كذلك، فيما يعني الإبداع السوريّ أيّاً كان شكل التعبير الذي ينتمي إليه أو يصدر عنه، وهو، بآن، ما يستنهض غير سؤال على غير مستوى، وبغير مرجعية بحثية، عن مكوّن الوعي، والقيم أيضاً، الذي يحكم أداء غير قليل من المعنيين بشأن هذا الإبداع سواء أكانوا نقّاداً بحقّ، أو أشاعب نقدٍ (جمع أشعب) يتطفلون على مائدته، أو شُرّاحاً، أو وصّافين، أم لم يكونوا، كما هو حال الكثير ممّن ينتمون بامتياز إلى قول المفكّر مالك بن نبي: “أكثر أشكال الجهل بطشاً بالأفراد والمجتمعات هو الجهل الذي يُلبسه أصحابُه ثوبَ العلم”.
فإلى الآن، ومنذ عقود طويلة، يُبدي معظم طلاب الدراسات العليا في الجامعات السورية، في أبحاثهم لنيل شهادة الماجستير أو الدكتوراه، شغفاً بما أنجزه المبدعون العرب، من غير جزء من الوطن العربي، على الرغم من أنّ ثمة الكثير من المبدعين السوريين الذين يتفوّق منجزهم الإبداعي على منجز أولئك، ومن أنّ بعضاً من هذا المنجَز يباسق شجر الإبداع العالميّ ولكنّه لم يحظَ بما يليق به من الكشف والاكتشاف، كما لم يلقَ ما هو جدير به من القراءة والتأويل والمقاربة، مهما كانت سويّة كلّ من هذه الثلاث، القراءة والتأويل والمقاربة، ونسبتها إلى النقد حقيقة أو مجازاً، أو الالتفات إليه، وذلك أضعف الإيمان، والأمثلة أكثر من أن تُحصى في هذا المجال، بل إنّ الإشارة إليها بأسماء أصحابها تحتاج إلى ثَبَت طويل.
ليس ما سبق نزوعاً قطرياً كما قد يحلو لأحد تفسير ذلك، بحُسن نيّة أو سوء نيّة، بل رغبة في إعادة الاعتبار إلى الإبداع السوريّ المفعم بإشارات غير قليلة إلى أنّ غير القليل منه إبداع بحقّ، وجدير بالقراءة والدراسة والنقد، وقد قيل: “الأقربون أولى بالمعروف”، والمعروف هنا ليس بمعنى الصدقة، بل بمعنى الإنصاف، وهذه القيمة، الإنصاف، لا تكون إلا فيمن أوتي ثقافة فارعة القوام، يتميّز بها الناقد من ظلّه أو ظلاله، والنقد من حقيقته أو استعارته، والكتابة المخلصة لقيم الحقّ والخير والجمال من الكتابة المتسولة للشهرة أو الواهمة بأنّ الطريق إلى ذلك إنما تبدأ بالخطو نحو هذا أو ذاك، أو هذه أو تلك، ممّن تمّ التواضع عليهم بوصفهم نجوم الإبداع العربيّ وكواكبه المضيئة دائماً على الرغم من أنّ بعض نتاجهم يشبه تدريبات في الكتابة، أو مشروعات كتابة، لا كتابة جديرة بوصفها إبداعاً.
وبعدُ، وقبلُ، فإنّ غير قليل من الإبداع السوري يبدو، عن سابق إرادة وتصور، وثيق الصلة بقول السرّي الرفّاء:
“فالمندل الرطبُ في أوطانه حطبُ”.