النتاج الباذخ الشعرية.. خلود الشعراء من خلود قصائدهم.. وقصائد فايز خضور خالدة!!
“البعث الأسبوعية” ــ تمّام علي بركات
“لا يدوم اغترابي لا غناء لنا يدوم” تسري كلمات هذه القصيدة المغناة بصوت فيروز مسرى عميقا في خاطر من يسمعها، تاركة بمرورها الرصين مرايا عاكسة لجوانيات المرء ودواخله، مرايا لها مذاقات مختلفة الأثر، فتارة تترك أثرا عادة ما ترخيه غيمة تمر بتروٍ، ومرة تترك أثرا يتركه في مروره نيزك! لا تدري وأنت تستمتع لها أي سحر ذاك الذي يؤرجح خيالك ومشاعرك معا: أهي الكلمات الأليفة والصور الشعرية العذبة؟ أم المعاني والأفكار المنحوتة كما لو أنها نبع في نبع؟ قبل أن تصحو من سكرة السؤال وما يحركه من نوازع كانت غائرة في النفس، على الجواب المحمول في صوت نهاد حداد، من حيث تخرج الكلمات والحروف “المموسقة”؛ إنها قصيدة مصاغة بماء القلب أولا، مشغولة بذهب الخيال، مسكوبة كما تسكب الجبال أنهارها في السهول، تنداح كجديلة في خاطر مشط؛ ثم تبدأ كمتلق بشكل لا شعوري بالربط بين صوت المغنية الشهيرة، وبين من غنت لهم من الشعراء، ليس من شعراء الـ 100 عام الأخيرة، بل منذ أكثر من 1500 عام، عندما اختار الموسيقار والكاتب والشاعر الفذ، عاصي الرحباني، أن تكون القصائد التي ستغنيها فيروز باللغة الفصحى، هي من القصائد الأجمل في تاريخ الشعر العربي برمته، فما كان لهذه القصيدة البديعة، إلا أن انضمت لذاك العقد الفريد بشكل طبيعي؛ منطق القصيدة، السبك، المفردات، وغيرها، تجعلك تفكر بكون شاعرها لا بد وأنه قادم من حاضرة الأندلس الشجية، أو لعله من شعراء العصر العباسي، ربما الجاهلي، وليس يخطئ من يعتقد ذلك، فخط الشعر رغم تواتره، واحد، والحرفة الشعرية، رشاقة الصياغة ومهارة النظم، تُظهر القصيدة وكأنها نتاج فكري وفني واحد بألف وجه ووجه، اشتغل عليه كل الشعراء، ومن مختلف الأزمنة، حتى صارت له هذه الملامح المتشابكة، لكن تخمينه ليس صحيحا، فمؤلف هذه القصيدة، هو واحد من أهم شعراء سورية والوطن العربي في العصر الحديث، شاعر ربته الطبيعة بحنوها ونزقها، بألفتها وجموحها، فصهل بين براريها كصهيل الأفراس في الصباح المنير، تاركا الصدى يردد طويلا، وسيردد طويلا، رجع صهيله الخالد.
فايز خضور (1942 – 2021)، ابن مدينة الشعراء “السلمية”، المولود تحت قمر الرضا في القامشلي، قبل أن يعود إلى مسقط رأسه، ثلاثة أنهار سقت طفولته: الخابور، دجلة، الفرات، انضم إليها فيما بعد كل من بردى والعاصي؛ ففي الجزيرة السورية وبين طمي تلك الأنهار سقط رأسه في “ديريك”، أو المالكية لاحقا، لتترك تلك الأنهار بدواخله صفاتها العظيمة: عذوبة صنعتها الأمطار تارة، ومياه الينابيع المتفجرة تارة أخرى، اندفاع وجريان في شرايين الأرض لتحييها، فرح له شكل قطرات متدفقة، حزن أليف رغم القسوة، وضوح وفصاحة، ولتشكل تلك العوامل في بعض منها جانبا وملمحا مهما في تجربة هذا الشاعر الاستثنائي والمغاير، وهذا ما سوف نجده في نتاجه الشعري العبقري، وحتى في إشكاليته التي تعاظمت، ونتجت أيضا، عن فصاحته ووضوحه، لا عن الغموض والالتباس المفترض وجودهما عند الشعراء كما جرت العادة!! فشاعرنا يؤمن بأنه في البدء كان الغناء، والغناء، أو “الشير” في اللهجات السورية القديمة، هو الشعر في فصيح العربية، وبأن الإنسان يولد شاعرا، ثم يتطور ويتحول ويتغير في شعاب الوجود، أو يبقى كالنهر يحفر سرير مجراه ليشكل سبيله الإبداعي الخاص؛ وهكذا نستطيع القول أن موهبة فايز خضور ولدت معه وظلت جنينا حتى أذنت لها الحياة بالظهور، فأبهر فيها، وزاد من سعة الأرض بما تركه من أدب شعري خاص، شغل ويشغل محبي الشعر والقصيدة العربية طويلا.
وفي وقت كانت النجومية الشعرية الشغل الشاغل لشعراء الجيل الأول من الحداثة – حسب انطولوجيا الشعر السوري- كانت القصيدة العربية ومسارات انتقالها من طور إلى طور، بما يحمله هذا الانتقال من جسامة وجرأة وطموح كبير، هي ما يشغل فكر العديد من الشعراء الذين لم يوافقوا “النجوم” على النظرة أو الرؤية الحداثوية التي سلكوا بها في طريق الشعر العربي، ومنهم، بل أهمهم، فايز خضور، الشاعر الذي كان له موقفا نقديا وفكريا يخالف تماما أراء جيل الأباء الحداثيين في طبيعة القصيدة العربية وبنيتها التي لا تقوم لها قائمة من دونها، رغم ما جناه عليه هذا الرأي من محاولة لتهميش تجربته، والتسويق لكونها ليست واضحة المعالم ولا بنية لها، وتم وصفها بالإغراق بالرمزية وغير المفهومة لشريحة واسعة من القراء، لتكون غالبية الرؤى النقدية، التي أقدمت على الخوض في شعره، ممسوكة من يدها بمجموعة من الأفكار المسبقة والجاهزة سلفا، لتقود سياقاتها المنبثقة أساسا من سوء فهم، تارة مقصود، وتارة مغفول عنه، ذلك أن مفهوم الشعر برمته مختلف عند صاحب “قدّاس الهلاك”، الذي يؤمن بأن لغة الشعر يجب أن تتخطى لغة الواقع الراهن، لأن الفنون جميعها، والشعر خاصة، لن يكتسب محتواها دلالة وحيوية لولا الشكل –الهيكل الذي يطرحها ويحتضنها بأبوة غنية الاحتواء ضمن علاقة سبب ونتيجة، ولا يتحقق استمرار أحدهما إلا بوجود الآخر؛ وهكذا سيجد القارئ أن قصيدة خضور تعتني بالشكل لا كإطار للقصيدة، بل كأحد أهم حواملها ومكوناتها، فالشكل هنا هو المضمون، وهذه تقنية نادرة عند الشعراء الذين غالبا ما يعلون من شأن المضمون، هاملين أن الشكل هو النافذة المشرعة الحقيقية على تلك الإطلالة الخلابة. يقول في إحدى فرائده:
كوخي رفيقة ها رأيت له
بابين مشكولين بالحبقِ
بابا حباه الحزن حرقته
وغفت على الثاني رؤى القلقِ
لا تعتبي فالشوق محنتنا
وإذا عتبتِ بوهمكِ اختنقي
أعطيتك الدنيا بأغنية وجرحت
كرمى للهوى عنقي.
(نُشرت في مجلة “النقاد” الأسبوعية الدمشقية عام 1961).
تقنيا لا تتكئ قصيدة خضور، في ملمحها الأهم، على الأسطورة السورية – كما يشاع عنها – بغية استحضار كثافتها الرمزية ودلالتها الإيديولوجية، كما حدث مع قصائد العديد من الشعراء؛ فقصيدته فعليا تستلهم مفردات تلك الأسطورة الحسية وقوتها الإيحائية، نظرا لأثرها الممتد في الوعي الجمعي، وما لها من حضور مؤثر في الفعل الثقافي العام والخاص، واضعا شاعرنا إياها في خدمة النص، لا النص في خدمتها، وهذا ملمح عدا عن كونه يدل على الأصالة، هو أيضا مغاير ومتفرد عن النصوص الشعرية الجمة، التي تذهب مذهب البناء فوق البناء، أو ما يعرف بـ “الكتابة فوق الكتابة”. ويمكن، وفق رؤية تحليلية نقدية لطبيعة نصوص خضور، القول بأن الرجل اشتغل على مشروع شعري – فكري متكامل، لغويا، فكريا، جماليا، إبداعيا، تقنيا، بدأ يظهر مع ظهور مجموعاته الشعرية تباعا، ليتكشف لاحقا أن مختلف مجموعاته الشعرية تشكل أقواسا لدائرة فايز خضور الشعرية، تلك التي راح يرسمها بأسلوب بارع تتداخل فيه القوة اللغوية مع الشكل المشغول بعناية بالغة.
ملمح مهم آخر من الملامح الفكرية في تجربة هذا الشاعر الفذ، وهو رفضه القاطع والكامل لبدعة “أممية الإبداع”، متدرعا بالعديد من الحجج النقدية والفكرية القيمة، والتي اشتغل طوال حياته على تطويرها وبذلها في سبيل الشعر والأدب، ومرة أخرى مع ما جره عليه ذلك من حروب مخفية ودسائس لا تنتهي؛ فالإبداع عند خضور معني أولا بأصالة الهوية، وما الكلام القائل بأن العالم قرية صغيرة، بالنسبة إليه، إلا كلاما سياحيا، مرجعيته شركات الطيران والسفر، ونماذج من المثقفين الإلحاقيين الذين يقومون بدور الدليل!
رحل فايز خضور، الشاعر والمفكر والأديب الذي صار بيرقا، دون أن يدري، في عالم الشعر؛ أما ما تركه من إرث شعري، ثقيل الوجد والأثر، فسيكون مفتوحا للدراسات النقدية التي أكدت، وتؤكد، أن ذاك النتاج الباذخ الشعرية هو الدليل على أن خلود الشعراء من خلود قصائدهم، وقصائد خضور.. خالدة.