مجلة البعث الأسبوعية

فايز خضور.. جنون لا يكتملُ بالغياب..

حسين عبد الكريم

الشعراءُ والعشّاقُ، لا يكتملون بغير الجنون؛ ولا أستثني الكاتبات والعاشقات من هذا الجنون البصير..  فايز خضور.. لم ينجُ، بأعجوبة، من حريق امرأةٍ تتلَّهى باللهيب..

الأنوثة كالقصيدة، جرحٌ في الغيب، يداوم في الحضور..

على مقربةٍ، من الجسد الماجن، تتأهبُ البرهةُ الماجنةُ للهدوء، أو العبث بمقدّراتِ الهدوء.. كالعرائشِ الزَّاهية، عقلُها في الغيوم، قلبُها في الدِّنان.. وبينَ العقلِ والقلبِ، تعيشُ الكروم..

فايز خضور.. صديقٌ عتيقٌ للحبر والخمر والحب.. يُقيمُ في أعالي السطوع كصباح الكنايات، يُعتِّقُ مُرَّ  النهايات، في أضاليلِ شهق البداية..

ليسَ عنده وقتٌ فضله للتقاليد اللغوية، وتقرير مصيرِ العواصف، في حالاتِ الشيخوخة!!..

شاعرٌ يحرسُ الرِّيح بالشجر، كيلا يفرَّ من أعصابِ كرومه الشعرية مزاجُ المطرْ!!..

يرشقُ الحساسين بالغناءْ!!..

لا يموتُ في دواوينه الحبرُ والحبُّ والكُحلُ، يُمسكُ بأصابع قلب الصباح، يشربُ نخبَ القصائد والنساءْ..

لا يشيخُ في نهارِ اللقاءاتِ التي بيننا، وهي كثيرة المساءْ..

منذ فترةٍ شاحبةٍ، يُخطئُ، إذ يتآمر، على جسده، يزرعُ  الكسلَ في الوسائد، كأنَّهُ حُلْمٌ مستقيل!!..

/ يا أجملَ الشعراءْ يا خضُّورُ!! /

لقاؤنا، في ملحقِ الثورةِ الثقافي، نفتتحه بهذا النداء: يا أجملَ الشعراء يا خضورُ!! / ولستُ معنيّاً بسؤال: لماذا أحبُّ صديقي الشاعر الكبير فايز خضور!!..

حبُّهُ لا يحتاجُ حبي، لتعريفهِ، وحبره يسطو على المزيد من الدَّهشةِ في النبرةِ وهندامِ الهمزات وعقوقِ الهمسات وأسئلة الجمر، في حرائقِ الكلماتِ..

الشعراءُ يكتبُهم شعرُهم، ويبقى يكتبُهم، لا يحتاجون تعريفاً آخرَ غير كتاباتهم، سيرتهم، تنامُ وتصحو، في محابرِ جنونهم، كالأشجار الجميلة سيرتُها، في حنانِ الأغصانِ، وجنونِ الحنان..

فايز خضّور سيرةٌ في الاعتداد يتشوّق جراحَ الأناقاتِ في الفواصلِ والدلالات..

حروفُ العواطف عندَ مبتدئه، لا تحدُّها الهوامش، أو نهاياتُ السطور..

عقد من السنوات، حتى الـ 2008، لقائي بـ فايز خضور، ومحمد الماغوط، ليسَ فيه عطلة أو إجازة نهاية أسبوع.. في روايتي (حطابون في غابات النساء) – طبعتها الثانية – فصولٌ لا تتعبُ أنفاسُها،  تجمعني بـ الماغوط، وجوزيف حرب، وفايز خضور، ونديم محمد، وغيرهم من الحاضرين الكبار، الذين لا يكتملُ جنونهم بالغياب!!..

لا يتوقفُ الشاعرُ الكبير، الصديق، عن المجيء، صباح كلِّ أحد، يحملُ مقالته “مصادفات” تُنضّدها الزميلة نبال معوّض، يُدققُها.. يصدرُ ملحقُ الثورةِ الثقافي بصفحاته الـ 24.. (16 صفحة بالأبيض والأسود، و8 صفحات ملوّنه)، يصطحبُ نسختُه، يقول: هذه للأرشيف!!..

نمضي، في دروبِ دمشق، هذه الأم العتيقة للأنوثة والمحبين والعشاق والشعراء العقلاء المجانين..

/ زيتونةٌ في الحبِّ أغنيّةٌ دمشق

عصير كرومها التاريخ والأبد المعتق

والنساء الكائنات

يخطن ثوبا للبقاء فلا يشق ..

/ كم في دمشق دروب

تشيلُ عنِ القلبِ همَّ الدروب..

وكم تتوه الخطا..

وليس في وارد العيشِ والحلمِ

أنّا نتوب!! /..

يشهدُ على هواجسنا وخطانا، الشارعُ المستقيمُ، وباب توما وباب شرقي.. الحاراتُ تشهدُ.. الأحزان.. وأنخابُ الأصدقاء.. مطعم قصر البللور.

الشعراء. الصديقات.. خياط الجولان، وهيب شحادة، الذي يحملُ في أعصابه وقتُ الأشواق، كـ “الخمارات” تتلقَّى أعصابُها صدمات وصدامات السكارى!!

نادي الصحفيين، في مراحلِ شبابه، المتكررة، نلتقي.. تجيءُ حبيبته، التي تُؤرق فؤادْ جسده وأمانيه، يكتبُ لها واحداً من دواوينه بعنوان: “عشبُها من ذهبْ”..

في يوم ماطر، تظهر في رأسه كتلةٌ دهنيةٌ بسيطةٌ، نذهب وإياه إلى صديقنا طبيب الجلدية المرموق، صالح داوود، في مشفى الجلدية، جامعة دمشق..

يقول له الطبيب الصديقُ:

كتلةٌ دهنيةٌ سبُبُها كثافةُ الأشواق وكثرة الاحتراق..

الشاعرُ العاشقُ يتحامى بالعشقِ من العشقِ، وبالجنون من الجنون..

التي عشبُها من ذهب، تُسافرُ في مجراتِ الهجرة.. تغيبُ..

في أيام لاحقة، يكبرُ في فايز خضور أريخُ النار.. أعرفُ أنَّ امرأةٌ، بين يديها العاصفة، تهزُّ كرومه.. تحضرُ إليه أو معه..

/ أريخُ النار / بتوقيع عواصفها.. في اتحاد الكتاب، مكتبه الطابق الرابع، كان يومذاك أمين تحرير الأسبوع الأدبي..

فؤاد غازي، صديقنا الفنان الأعجوبة، تسرقنا عواطف صوته إلى مطعم الشرفة، سطح اتحاد الكتاب..

غناءٌ دهشةٌ.. أنخابٌ تلمُّ في حيثياتها العذوبة وحنيناً مشردّاً أو هائلاً..

وكان الشاعر العاشق الآخر الكبير على الجندي.. وكانت إحدى القصائد تتموَّجُ في هواء المكان والأحاديث والطاولة..

فايز خضور قارئ عجيب، يصرُ على القراءة كصبره على تفاعيل القصائد التي هو سيّدٌ في جنونها، كما هو في رصانتها..

لا يمكن الكتابة عن الأصدقاء الشعراء المجانين البارعين، في البصيرة، لأنَّهم لغةٌ كبيرةٌ.. أكبرُ من منهاجِ المفردات، ولا يكتملُ حنينهم أو كابوس أفكارهم العظيمة بأيِّ غياب، لأنهم حضورٌ شرسٌ..