مجلة البعث الأسبوعية

يوم قيامة سورية

أحمد هاتف

_ كاتب ومخرج من العراق

انطقها وقف.. إنه اسمها المقدس.. سورية.. الحلم المزهر الشريف الشفيف المعطر بالصبر والكرامة.. الكرامة هنا ليست لفظة في شعار.. بل هي فعل حياة تقرأ سطوره في جباه الأمهات.. الأمهات الودعن أولادهن الى السماء بالزغاريد والدمع والأمل.. هي أصوات طفولات ينثرها الأولاد في طريق المدرسة.. هي شباك فارغة يعود بها صياد يغني.. هي أرجل دبكة في زفة شهيد.. هي استقامة عكاز بيد جريح حرب.. أو اغنية شعبية بحنجرة معتر يبيع المناديل في الطرقات..

تعالوا نتعلم تلاوة اسمها.. اسمها المزين بأقواس دمشقية وقدود ومواويل ودبكات وسطور تاريخ معتق بعرق الماضي البعيد..

إنها سورية يا سادة.. من حيطانها خرج الشعر والفرسان واستقامت الرايات وصنع الدلال مهنته.. من أبوابها خرج الدراويش والفكهانية والعلماء والأساقفة والحكماء..

كنت أراها منذ زمن بعيد تنبض باللون رغم أنها تحاورني كمشاهد باللون الأبيض والأسود.. وكانت تحجبني عنها جملة في جواز سفري المطعون في قلبه بقرار المنع.. كنت أتساءل: لماذا؟.. كيف لي أن أمر إلى الحلم من خارج حدودها؟.. فقد قال لي أبي أن الأحلام تصنعها ساحة في دمشق.. أبي الذي مات وفي فمه أغنية شامية ونكهة ليمون.. كان يحلم بعشق سوري.. لكنه رحل وترك في قلبي ذاك اللحن..

سأعترف للمرة الأولى بأني توجست يوما.. بكيت ليلة على أرصفة الشام المهجورة في أول المساء.. تساءلت والقذائف تنهش سهرها: أين ذهبت دمشق؟.. وتعوذت من اليأس ألا تعود.. مرة قال لي عجوز في ساحل بيروت أن المخاوف ابنة الحب.. ومرة أخبرتني أمي أن الأشجار في دمشق تتضاحك كالنساء.. تلك الليلة رأيت شجرة تبكي.. ورصيفا يفتقد شعلة سيجارة عابرة وكرسيا لم يألف مفارقة الرجل العجوز الذي تحدث لجريدته..

نعم توجست.. فالهزيمة ليست طلقة في القلب.. ربما هي ألا يحدثك الأمل عبر هاتف منتصف الليل.. لكنها عادت.. رغم أن العجوز لم يعد لكرسيه الذي ظل شاغرا.. والوردة التي حملتها الصبية بانتظار حبيبها الجندي ما زال يسمع صوت نشيجها حارا في المقبرة.. لكن الأمل يلد الكثير من العشاق..

قف وانطق اسمها. إنها سورية يا سادة!! بلد الغناء والدراويش والمتة واليافطات التي تجيد صنع الليل..

البارحة أبكتني هذه السورية.. لم اعتقد في أجمل أحلامي أن أراها ترقص كما لم ترقص يوما.. كانت الساحات تتمطى لتتسع للدبكات.. كانت الشوارع أكبر من قامة الكلمة.. أخبرني صديقي أنه يزاوج بين الرقص والبكاء.. فقد رأينا معا يوما قذيفة تنهش صوت بائع فقير.. وتنفسنا معا رائحة بارود يغلق ضوء المحال لتبدو دمشق ساكنة…

البارحة كانت دمشق كما لم نرها من قبل.. حية، جميلة، غنجة، قوية، كانت تؤذن لقيام الأمل، وتعلن أن ساعتها المنتظرة جاءت وأنها تعافت من كل جراحاتها..

كانت نساء سورية، كل سورية، يعدن لمجد العربيات أساطيرهن ويسجلن نغما متفردا في مقام التحدي.. كان شيوخ سورية يعلنون أنهم بعض تراب سورية وبعض شجرها.. وأن الأمل ما يصنعه اليوم ليكون دواء الغد.

أبارك موج الأخضر في بدلات الجند، وأبارك الأحمر والأبيض والأسود في مقام راية سورية.. وأبارك عطر النسوة وشغف الأمهات.. وأقول شكرا لأرض لا تموت..

البارحة يوم قيامة عشتار سورية، وصحوة تموز السوري.. وإعلان حياة..

شكرا سورية، فقد ظننت أن الفرح لم يعد في متناول الأحلام.. وها أنت تعيدين صياغة الفرح..

شكرا فخامة الأخ بشار الأسد.. لأنك كنت وستبقى حارس الأمل