لماذا الكشف عن التجسّس الآن؟
طلال ياسر الزعبي
تحاول الدول الأوروبية الرئيسية مؤخراً الإيحاء بأن موقفها من روسيا مستقل تماماً عن موقف الإدارة الأمريكية، وتتنصّل من اتهامها بالتبعية لواشنطن بشأن القرارات الكبرى على المستوى الدولي.
ولكن حتى لو سلّمنا جدلاً بأن هناك استثناء يخصّ كلاً من فرنسا وألمانيا اللتين تحاولان الإيحاء بالاستقلال عن الإدارة الأمريكية بشأن العلاقة مع روسيا وغيرها من المواضيع الاستراتيجية، فإن توجّه الدولتين في نهاية المطاف لا بدّ أن يتناغم مع ما تريده واشنطن في هذا الشأن.
وفي هذا الإطار أفادت وكالة “بلومبرغ”، بأن الاتحاد الأوروبي دعا الإدارة الأمريكية إلى إصدار بيان حول نيتها التمسك بالموقف الموحّد من روسيا وكذلك مواجهة الأعمال الروسية التي تعدّها معادية، وذلك أثناء القمة الأوروبية الأمريكية التي ستعقد في بروكسل منتصف حزيران القادم، أي قبل يوم واحد من إجراء قمة الرئيسين الروسي، فلاديمير بوتين، والأمريكي، جو بايدن، في جنيف، الأمر الذي عدّته موسكو محاولة لتسميم أجواء اللقاء قبل انعقاده.
وفي محاولة لإظهار نوع من التباين مثلاً بين ألمانيا والإدارة الأمريكية، أعلنت الحكومة الألمانية أن برلين على علم بالتقارير الإعلامية حول التجسس على المستشارة أنغيلا ميركل، وغيرها من المسؤولين الألمان، غير أن المتحدث باسمها ستيفن زايبرت، أكد أنه ليس لدى الحكومة “بيان حول ما إذا كانت التقارير صحيحة أم لا”.
ووصفت الحكومة الفرنسية من جهتها هذا الأمر بأنه “خطير للغاية” في حال تأكد حدوثه، في بيان جاء على لسان وزير الشؤون الأوروبية الفرنسي، كليمنت بون، الذي علق بالقول: “نحن لسنا في عالم مثالي، لذلك، للأسف، يمكن أن يحدث هذا النوع من السلوك، وسوف نتحقق منه”.
والغريب في هذا الشأن أن التقارير تحدّثت عن أن جهاز المخابرات الدفاعية الدنماركية قد ساعد الولايات المتحدة في التجسس والتنصّت على مسؤولين سياسيين أوروبيين، وتم تخريج الأمر من هيئة الإذاعة والتلفزيون الدنماركية في تقرير نشرته نقلاً عن 9 مصادر مطلعة، بأن وكالة الأمن القومي الأمريكية من خلال الشراكة القائمة مع جهاز المخابرات الدنماركية استخدمت كابلات دنماركية خاصة بالمعلومات للتجسس على مسؤولين كبار في السويد والنرويج وفرنسا وألمانيا، حيث تستضيف الدنمارك، الحليف المقرب من الولايات المتحدة، عدة محطات إنزال لكابلات الإنترنت البحرية، فلماذا لم تعترض جميع هذه الدول سابقاً على هذا الأمر الذي كشفه عميل الاستخبارات الأمريكي السابق إدوارد سنودن منذ عام 2014، ولماذا يتم الكشف عنه في هذا التوقيت بالذات، مع أن ألمانيا وفرنسا على علم به منذ عام 2015 ولم تتم إثارته بهذه الطريقة إلا الآن؟، وما هي الرسالة التي تحاول الدولتان إيصالها إلى العالم؟ وهل هناك نوع من العلاقة بين مخاطبة الاتحاد الأوروبي واشنطن مؤخراً بضرورة التنسيق فيما بينهما بشأن الموقف من الحوار مع روسيا وتسريب هذا الخبر الآن.
كل ما سبق يشير إلى أن هناك من يحاول الإيهام بأن الاتحاد الأوروبي مستقل في سياساته الخارجية عن حلف شمال الأطلسي “ناتو” الذي تتحكم به واشنطن، أو أنه يتعامل مع الولايات المتحدة معاملة الندّ، وربما يعود ذلك إلى محاولة إقناع العالم وخاصة روسيا أن العقوبات الأوروبية ضدّها لها بالفعل ما يبرّرها، وأن موضوع العداء لها ليس مفروضاً على الأوروبيين من خلف المحيط، بل إن الاتحاد الأوروبي يمكن أن يتعامل مع الولايات المتحدة بالطريقة ذاتها التي تعامل فيها مع روسيا إذا ما ثبتت صحة التقارير التي تحدّثت عن تجسس واشنطن على الدول الأوروبية.
على كل الأحوال، لا تعول روسيا كثيراً على نتائج القمة المرتقبة بين بوتين وبايدن، وهي تفترض سلفاً أن اللقاء لالتقاط الصور فقط، وليس على فرنسا وألمانيا أن يجتهدا كثيراً في إظهار سيادة في القرار لا يمتلكانها.