الفخاريات.. كتب وجداريات وموسيقا ويوميات
“البعث الأسبوعية” ــ غالية خوجة
ماذا لو عادت مكتباتنا الأثرية الفخارية وكتبها الصلصالية ونصوصها العريقة المفهرسة إلى شاشاتنا الالكترونية؟
تتسم الفخاريات والخزفيات بتقاربها المدلولي مع بدايات الحضارة الإنسانية، واستقرار الإنسان في المكان الذي يلبي متطلباته الحياتية في بيئته القديمة والجديدة والمعاصرة. وقد سجّل الإنسان السوري بداياته مع الرقُم الطينية والفخارية، كتابة ورسماً وفنوناً وأدوات يومية للطبخ والزينة، إضافة إلى الكتب الفخارية والمكتبات الحضارية الأثرية العريقة وأرففها الفخارية، مثل مكتبة إيبلا ومكتبة أوغاريت.
ولم تخلُ جداريات الكهوف والتماثيل والمنحوتات من توظيف الفخار بوسائل وطرق مختلفة، عاكسة ما يفكر به الإنسان وطريقة حياته التي وصلتنا عبْر علوم الآثار والاجتماع والاقتصاد والأركيولوجيا بشكل عام، والتي تضيف اكتشافاتها المزيد من التحولات الفنية بين تماثيل وأحواض وأدوات.
وتعتبر الجرار الفخارية وسُرج الإنارة وأدوات المائدة والطعام من أهم ما يستعمل بشكل يومي في البيوت والمطاعم، كما توظف الأصص الفخارية في تزيين الأمكنة بالورود والأشجار والمكرميات التي تتفنّن بها المرأة السورية، إضافة إلى اعتبار الفخار من الإكسسوارات المعاصرة للموضة النسائية والرجالية والولادية.
وتعتبر حلب وريفها موطناً أصيلاً لهذه الحرفة التراثية الفلكلورية، وها هي تعود بأجمل ما يمكن بعد انتصار سوريتنا الحبيبة لتستعيد حضورها الفاعل.
وتعتمد هذه الصناعة بموادها الخام على التربة كعنصر أساسي، وهي تربة متنوعة، ومن أهمها التربة الشامية والحمصية، وغالباً، ما تُخلط معها تربة رملية متعددة الألوان كالأصفر والأحمر والأسود وموجودة بكثرة في شرق حلب.
وتمر الفخاريات بمراحل متعددة، أهمها نسبة الخلطة الترابية تبعاً للمطلوب والمناسب من حيث الكثافة واللون والشكل الأخير، ثم يُخلط هذا المنتوج بالماء، وهذا يحتاج إلى حرفية، لتكون المعادلة متناسبة، تليها مرحلة السكب في البركة الأولى للتنقية من الشوائب والحصى، ويدور الخلاط، ثم تأتي مرحلة بعد التصفية الثانية وهي يدوية يتم خلالها وعبْر منخل ناعم نقل الماء المتبقي مع الرمل إلى بركة ثانية يمكث فيها المزيج يومين، لينقل إلى بركة ثالثة، ويظل فيها 20 يوماً، ليتبخر الماء ويترسب الرمل الناعم، ثم تذهب هذه الفخاريات إلى مرحلتها الأخيرة لتنضج مع حرارة الشمس، أو في الفرن بدرجة حرارة محددة تناسب كل شكل من الأشكال، تليها عملية التبريد.
ويأتي دور المعلم في عملية التصنيع وتقطيع هذه العجينة ثم وضعها على الدولاب اليدوي وزخرفتها وإضافة الفنيات لها لتكون جرة، أو زهرية، أو صحناً، أو لوحة، أو زبدية، أو ثريا، أو سراجاً، أو تنوراً للأفران، ورؤؤساً للنرجيلات، ومنحوتات فنية ولوحات تشكيلية وغيرها من الأشكال.
وما بين سوق الخابية بحلب، وريفها الشمالي والشرقي، ومناطقها الأخرى مثل مصانع ومعامل الفخار في الشيخ سعيد والمشارقة، والورشات المتوزعة داخل مدينة حلب، تنتشر هذه الحرفة الأصيلة، ويعتبر العامل فيها فناناً، وتمتد جذوره إلى أجداده الذين صنعوا العديد من الفنيات الأثرية المنتشرة حول العالم، ومنها ما يضمه متحف حلب الوطني والتي يعود تأريخها إلى عصور مختلفة، مثل العصر الإسلامي، ونمثل لها بزبدية يرجع زمنها للعهد الأيوبي، حوالي القرن الثالث عشر الميلادي، مرسوم عليها شكل الشمس، وهي من آثار قلعة جعبر- الرقة.
كما تحيلنا هذه الرموز والرسوم إلى العديد من الدلالات والنصوص القابلة للقراءة والتأويل من أجل المزيد من اكتشاف العالم القديم، الذي يضم بكل تأكيد ما تخبئه آثار تدمر، ومعلولا، وقلعة حلب، وآثار ساحلنا السوري الذي أنجب أول كتب فخارية، وأول أبجدية مرقومة على الطين، وأول “نوتة” موسيقية مكتوبة ومدونة لتكون الجدة الأولى للعلامات الموسيقية، والتي تم تدوينها عام 1400 قبل الميلاد، وهي مؤلفة من 36 أغنية، اكتشفت عام 1950 ميلادي، في أوغاريت، وفك رموزها الكاتب ريتشارد دمبريل مؤلف كتاب “الموسيقى في الشرق الأدنى القديم”.
وتهتم حلب بتراثها الجمالي، وتقيم له ورشات مختلفة، ليساهم عشاقه في التعرف إليه، والابتكار به، كنوع من أنواع الفنون البصرية اليدوية، ومن الجهات الثقافية المهتمة بهذا الفن جمعية العاديات التي تقيم ورشات للفنون التراثية المختلفة ومنها ورشة ترميم الفخار، كما ترى هذا الفن حاضراً في المعارض المختلفة ومنها معرض الياسمين والسنديان لرائدات الأعمال، غرفة تجارة حلب الأخير الذي أقيم في شيراتون حلب.
منذ آلاف السنين والإنسان يجرب إجادة عملية الصلصال، ليوزع أنفاسه ونبضات قلبه على عالمه المحيط، موظفاً الفصول الأربعة، ما بين حرارة وبرودة، وموظفاً ألوان الطبيعة وروحها النقية لعله يرى صورته الأخرى في مرايا ما يصنعه من آثار فنية ستطور أبعادها، وتستكشف المزيد من المخبوء في أعماق الأرض مع البحاثة وعلماء الحفريات.