خير الدين الأسدي.. أول من أدخل قصيدة النثر إلى حلب
“البعث الأسبوعية” ــ فيصل خرتش
أنجبت مدينة حلب شخصيات عظيمة، كان لها دورها المؤثر في تاريخ المدينة، منها عبد الرحمن الكواكبي، ورزق الله حسون، وجبرائيل الدلال، وفرنسيس المراش، وقسطاكي الحمصي، وبدر الدين نعساني، والشيخ كامل الغزي، وميخائيل الصقال، وخير الدين الأسدي، وكثيرون غيرهم.
وُلِدَ خير الدين الأسدي في المدينة القديمة، وتلقى تعليمه في مكتب شمس المعارف، قرب قلعتها، ثم في المدرسة العثمانية، إلى أن وصل إلى المدرسة الرشيدية، وأولع بحرفة الكتب حتى أسس وهو في العشرين من عمره مكتبة ممتازة، فكان ينفق كل ما كان يكسبه من مال على شراء اكتب.
بدأ حياته معلماً؛ وفي العام 1923، أخرج مسرحية “الاستقلال”، وفي يوم العرض انفجرت كمية من البارود أدت إلى فقدان كفه اليسرى. درّس اللغة العربية في مدرسة “هايكازيان” الأرمنية، ثم عمل في مدرسة اليهود، وتعاقد مع الكلية العلمانية “اللاييك”، ثم قرر أن يوهب مكتبته – وكان ذلك في العام 1946 – على أن يعطوه 150 ليرة، ثم حرموه منها؛ وقد زار كثيراً من البلدان، والمكتبات فيها، وفي النهاية بدأ الوهن يدب في جسده فأدخل مستشفى سان لويس ثم خرج منها، وعاوده المرض فأدخل المستشفى الوطني، ثم مستشفى الكلمة، ثم المبرة “دار العجزة. وفي صباح 25 كانون الأول 1971، أسلم الروح، ونقل جثمانه إلى مقبرة الصالحين، ودفن بين قبرين، وحيداً غريباً، بلا جنازة ولا مشيعين، وقد وصف نفسه بقوله: “وديع، سمح الأخلاق، حلو المعشر، لا تفوت مجلسه النكتة، حبيب إلى كلّ القلوب، نظامي، دقيق، قليل الكلام، كان متأنياً، عاشقاً للجمال، تأسره الكلمة اللطيفة، شيخاً، طفلاً، سريع الغضب، سريع الرضا، ذا عزيمة وإصرار، يقرّ برأيه عن ثقة واضطلاع لا عن تعصب، دؤوباً على العمل، نظيفاً على الرغم من فقد يده وتوحده، صبوراً على الألم، بترت يده من غير مخدر، فلم يتأوه.. ذو شخصية قوية، شديد المحبة في شبابه، جليل القدر في شيخوخته، لا يقبل المنة من أحد”.
موسوعة حلب، هي أهم كتاب مخطوط له، ويقع في 7626 صفحة من الأوراق المفردة، وقد أنفق عمره على تأليفه، وجمع فيه مفردات وتعبيرات لهجة حلب، يقول: “موسوعة حلب حصاد عمر قضيناه في الدراسة والتدريس بجوار خزانتنا الزاخرة بكلّ أثر لغوي، ثم قضيناه في سياحة إلى خزائن العالم والاتصال بذوي المعرفة”. وقد نسخ الصفحات أربع مرات، وفي كلّ مرة يزيد عليها ما استجد لديه من كلمات ودراسات، وقد تفردت الموسوعة بشمولها واتساعها وصحتها، وكان يقدر أن معجمه سيحوي خمسين ألف كلمة: من بينها 12 ألف مثلاً، عدا عن سائر الكلمات وضروب القول الأخرى، والموسوعة تقدم بناءً لغوياً متكاملاً، ترفع أسّه الفصيح والعامي والذي يتعلق باللغة السامية، لبنة لبنة. والعلاقة بين المؤلف وحلب هي العلاقة ما بين العاشق والمعشوق، أحبها حتى فني فيها، وكانت كلمات الموسوعة مرتبة حسب تسلسل الأحرف الأبجدية، وقد تناول فيها وسجل حياتها، فكان منها: ضروب البيان فيها من تشبيه واستعارة وكناية ومجاز وتورية وجناس. كلامها، تصحيفاتها، مغالطاتها، أمثالها، حكمها، حكاياتها، نوادرها، نداء باعتها، ألغازها.
كما تناول: سبابها، تهكماتها، لوحاتها، كلام أهل الميول، والسلته جية، لخماتها، وحبل الجنابظة والمعرقين، وأهل سوق العبى، وأهل سوق الصابون، وغيرهم، ومراسم الأفراح والأتراح، كنشيد ختم القرآن والختان والأعراس ونقل الجهاز.
وتناول كذلك مواويلها، وشدياتها، وأهازيجها، وهنهوناتها، وأغنياتها، ومناغاة الأمهات لأطفالهن، وأضاف إليها عاداتها ومعتقداتها وخرافاتها، وطعامها وشرابها ولباسها وفرش بيوتها ومصطلحات الصناعة والزراعة والتجارة فيها، وكذلك مربي الحمام. كما تحدث عن حاراتها وأسواقها، خاناتها، قيسرياتها، قساطلها، سبلانها، بواديها، قراها مع تعليل أسمائها، وتناول القبائل الضاربة في أرباضها، وأعلام الناس فيها، نهفات مجانينها وألعاب سهراتها وأفراحها وأحزانها، وحتى مباذلها وسعة القول فيها.
كان يحمل دفاتره وأقلامه ويطوف في الأحياء القديمة والمقاهي المنزوية ويسجل، يجالس الباعة والتجار والمسنين والأطفال والعمال والفلاحين، والبدو والغجر، يلتقط من أفواه من حوله مفردات لهجة حلب وضروب القول، ثم يبحث عن جذر الكلمة، أهي عربية؟ أم سريانية؟ أم تركية؟ أم فارسية؟ ويضعها في مكانها على سلّم التطور اللغوي ثم يستخلص قواعدها العامية.
إنها صحائف وثائقية، يستفيد منها دارسو العصر الحالي والعصور القادمة، وما يحيط بها، من خلال الحركة الحياتية؛ إنها بحق علم حياة الشعوب، أو كما أسماه الأسدي “علم الحياة”.
تضم الموسوعة حوالي تسعة آلاف صفحة، وقد نسخها أربع مرات بخط يده، وجمع فيها أربعة ألوان، وطبعت بعد وفاته، وقد حققها الأستاذ محمّد كمال في جامعة حلب.
بدأ بكتابة “أغاني القبة” في نهاية الثلاثينات، وكان يؤكد على أن الشعر رسالة ووحي لا تهبط إلا على القلب الطاهر، فالشعر استنزال للكلمة الإلهية، ووجد علوي ونشوة روحية وفيض للاشعور المستمر.
يتميز أسلوبه بالأصالة والمتانة وروعة انتقاء الألفاظ التي تخلّص القصيدة من الرتابة الموسيقية التي تعرفها الأوزان الخليلية، ويخيل إليه أنه يسمع موسيقا علوية تأتيه من السماء، وعلى إيقاعها تبدأ رحلة القصيدة، بين الصحو واليقظة، بعيداً عن أسر الإحساس بالزمان والمكان، تنهمر عليه كلمات القصيدة وتتشكل أمام عينيه الرؤى الشعرية. والديوان أنموذج رائع لقصيدة النثر، وله فضل الريادة فيه، وقد مزج ذلك بأغان كنسية، هي من صميم الفكر الصوفي المنطلق من الحبّ، وكان إذا امتلكه العشق، واشتد به الوجد، غاب عن الحسّ، وأدغمت الحواس، ولم يعد في قلبه غير صورة الله.
ينطلق الشاعر من إهابه المادي وقيده الجسدي، فالمعرفة الحقيقية لا يمكن أن يصل إليها المرء وهو ينوء بهذا الجسد، والكشف النوراني لا يتم إلا بالخروج منه، بحيث تتضح معالم الآفاق، وتمضي الروح في زحمة الإلهام إلى نبع الشمس.
هو ليس بشاعر عادي، وإنما صرخة الحق ينطق بحقيقة الوجود في جلال الحب والعشق. ويتفرد بقاموس لغوي غني، ومقدرة على الصياغة تتجاوز حماية الشكل إلى التعبير عن معانٍ وحالات وجدية وحكمة ممطورة بعبارات مكثفة ذات علاقة لفظية جديدة، والألفاظ التي فقدت طاقتها تشحن بطاقات جديدة، فتتوهج بنار المضامين الصوفية الفلسفية، وتسطع في العبارات إشراقات معرفية قلبية نورانية، وتقوم الصورة عنده على جزئيات معرفية وروحية.
في رصيد خير الدين الأسدي كثير من الكتب، وأهمها على الإطلاق موسوعته عن لهجة حلب، وديوان “أغاني القبة”، وقد كرم بعد وفاته، وسميت مدرسة باسمه.