مجلة البعث الأسبوعية

د. أنس بديوي: انكفأ الناقد وضعُف صوته ولا حيادية في النقد بل الموضوعية!!

“البعث الأسبوعية” ــ أمينة عباس

بعد العديد من الكتب المعنية بالدراسات الأدبية التي سبق وأن أصدرها، مثل “أساليب التعبير في الشعر العربي المعاصر”، و”صورة الآخر في الشعر السوري”، و”النقد الأدبي الحديث”، والعديد من المجموعات الشعرية، ومنها “دق الأصيل”، و”طقوس الغياب”، و”سفر النبوة”، و”الوجع الأسود”، صدر له حديثاً عن الهيئة العامة السورية للكتاب “قراءة النص الشعري وتحليله”، الحائز على جائزة الأدب التشجيعية في مجال الآداب، عام 2017.. إنه الدكتور أنس بديوي، عميد كلية الآداب، والأستاذ المساعد في النقد الأدبي، بجامعة حماة.

 

بداية.. اعطنا فكرة عما ضمَّنتَه كتابك الجديد “في قراءة النص الشعري وتحليله”، وأبرز المقولات التي توصلتَ إليها على صعيد النص الشعري؟

– لن يكون الحوار مع الشعر في يوم من الأيّام حواراً عاديًاً، لأنّ الشعر في الأصل تجاوز للعادة وخرق للمألوف، ولأنّك كذلك تحسب نفسك في عالمٍ سحريّ، ينسج الخيال فضاءاته، ويلفّه الوجدان بمكنون عواطفه واندفاعاته إلى مكان لا شيء يحدّه.. ولعلّ الروح الخاصّ الذي يسري في جسد اللغة فيكسوها ريش وجودها هو من أهمّ عوامل تأبّي الشعر على التعريف الذي يقود إلى التقييد، وهو صفة تدخل في علاقة عناديّة مع الشعر المتفرّد بانطلاقه.. وما لا بدّ منه أن تقارب ما تسمع أو تقرأ بحسّ ناقد احتراماً لتفرّد الشعر لأنّك إذا جلوته كشفت معدنه من دون تعطيل لإرادة الذوق السليم وما تأسّس عليه بعد دربة ومران لا يضيران تلقّي الشعر والانفعال له وبه؛ وقد حاولت في هذا الكتاب أن أقارب نقديّاً صفحات قليلة لنماذج شعريّة بمباحث ألحّت على وضوح العبارة والرأي النقديّ والنأي بهما عن الغموض والتعقيد من دون الوقوع في التبسيط الـمُخلّ قرباً من المتلقّي العادي وإفادة لصاحب الاختصاص. لقد أردت في هذا الكتاب تقديم أنموذج للنقد التطبيقيّ في مباشرة النصّ الشعريّ على اختلاف شكله الإيقاعيّ ونمطه بعد أن أرهقت مدارات التنظير الدراسات النقدية في مسالك وعرة، وقد وقع اختياري على منجزات نصيّة لمحمّد مهدي الجواهري ومحمود درويش ونزار قبّاني ووجيه البارودي وراتب سكّر، وما أرادت بعض اتجاهات النقد الحديثة استبعاده في بعض منظوراتها النقديّة على صعيد فاعليّة المعنى في التمظهر الشكليّ استدعاه خطابنا النقديّ، وبيّن أثره في التشكيل الفنّي، وجاء في الكتاب أنّ وصفيّة بعض المناهج تضمر مسكوتاً عنه في الأداء النقديّ التطبيقيّ، ودور القارئ هو استنطاق ذلك المسكوت عنه وصولاً به إلى التقويم، جوهر النقد وفحواه، فالغنى الدلاليّ وانفتاح النصوص على القراءات المتعدّدة إشارات تقويميّة خرجت من عباءة التوصيف.

 

كيف تقيّم الواقع الشعري اليوم؟ وما أبرز ما لفت انتباهك فيه؟

– يُزاحَم الشعرُ اليوم مجموعة من الفنون على صعيد علاقته بالإبداع المختلف، وينوء هذا الفنّ بكثرة المشتغلين فيه، حتّى إنّ المرء ليحسب أنّه مؤسّسة للسياحة الثقافيّة بعدما أصبح بديلاً نفسيّاً ووجوديّاً عن مفقود يُبحث عنه في زحمة الواقع الثقيل الذي يعيشه الإنسان في بلدنا الحبيب سورية، ذلك أنّ صلة الشعر بسياقه الثقافيّ، الذي يتبدّى فيه، هي صلة وجود، وما يقف عليه المتابع يعكس ظنّ بعض المتعاملين مع الكلمة على أنّها شعر، أصالةَ ما، يُقال من باب تيسّر الوصول إلى الجمهور بما وفّرته منصات التواصل الاجتماعيّ المتاحة للجميع، وكذلك منابر المنتديات، أو بعض المؤسسات التي تؤسّس سياساتها الثقافيّة على التواصل مع المجتمع المحليّ. وقد أدّت هذه المظاهر الثقافيّة دوراً سلبيّاً في بعض الأحيان، مع ما لها من تأثير إيجابيّ في أحايين كثيرة، إذ انكفأ الناقد وضعُف صوته خشية أن يسم المتلقيّ الجماهيريّ خطابَه بالنشاز، أو الصرامة المنهجيّة والأكاديميّة أحياناً، لاختلاف الأفهام والأذواق في تحديد الإجابة عن سؤالين مهمَّين، هما: ما الشعر؟ وما دوره في هذا السياق الثقافيّ؟ مع غياب الفروق في خصائص الأجناس الأدبيّة والفنيّة، وتشعّب وظائفها وتباينها، إذ وصلت إلى حدّ الغياب، أو التشتّت والضياع في أحسن حالاتها.

 

ما هي أبرز المطبات التي يقع بها الشعراء الشباب برأيك؟ وما هي نصيحتك لهم؟

– الشعر سيرورة واستمرار وتعاقب أجيال، وهو – شأن أي ثقافة – فعل تراكميّ، لكنّ محرّكه ومحرّضه هما الموهبة والإبداع وصولاً إلى التفرّد؛ ولا يتحقّق ذلك إلا بالثقافة المحصّنة بالوعي والمبنية على تأسيس الذاكرة بانطلاقٍ إلى تفاعل حضاريّ مع المحيطَين، القريب والبعيد، والعلاقة الثقافيّة بالآخر المختلف تزرع في المستقبِل بذور التعدّد والتنوّع والتباين الخلاّق. إنّ اقتصار المشروع الشعريّ على منهل واحد ربّما يفقده روح البقاء الحيّ واستمراريّة العطاء، فلا بدّ من التنوّع في تغذية المخزون المعرفيّ، رافد الشعر ومعزز وجوده؛ ولعلّ أبرز سهم سُدّد إلى الشعر هو محاولة جعله فنّاً شعبيّاً، فاستُسهل سُلّمُ ارتقائه، وحاول بلوغ أعماقه من لا يعرف السباحة، بلهَ الغوصَ وامتلاكَ عدّة الغوّاص؛ على أنّنا لسنا من دعاة تقوقع الشعراء في أبراجهم العاجيّة، فالحالتان مرفوضتان، كما نرى، وما يعزّز موقفنا هذا يتمثّل في وجود كلّ أنماط الشعر وأشكاله في البيئة الثقافيّة في سورية: ما كتب على الشكل الإيقاعيّ القديم والجديد، وقصيدة النثر، والنصوص غير الأجناسيّة، “فأمّا الزبدُ فيذهبُ جفاءً، وأمّا ما ينفعُ الناس فيمكثُ في الأرض”.

 

المتابع للحركة النقدية يلحظ غياب فعاليتها من حيث قدرتها على تشكيل مشهد نقدي سوري.. ما هي الأسباب برأيك؟

– المتابع للمشهد الثقافيّ في سورية يلاحظ وجودَ دراسات نقديّة، لا حركة نقدية، وللتمييز بين الحالتين تستحضر الأذهان السجالات النقديّة بين أنصار القديم والجديد وتيّارات المدارس الشعريّة ومداراتها الإبداعيّة المختلفة، ولكلّ منها نظريته النقديّة التي تنافح عنه، وتردّ على الانتقادات الموجّهة إليه، وتعرض إبداع شعرائها وتقدّمه للقرّاء؛ وغياب هذا المناخ الفكريّ المرتبط بعوامل عدّة يحول دون قدرة النقد، في واقعه الراهن، على الإسهام في تشكيل مشهد نقديّ يوجّه الإبداع ويقود دفته ويرسو به على شواطئ أحلامنا المنشودة، فثقافة النقد وقبول الاختلاف والاستماع إلى رأي الآخر المختلف ليست نسقاً ثقافيّاً مهيمناً في التكوين المعرفيّ العامّ، وما نراه عند بعضهم هو استثناء لا يشكّل ظاهرة.

 

ثمة من يرى أن النقد الأدبي سابق على نصه.. ما هي المعايير الناظمة لعلاقة النقد بالإبداع؟

– بين النقد والإبداع علاقة جدليّة، فمن قائل إنّ النقد تابع للإبداع، وقائل إنّ النقد إبداع، أو قائل إنّ النقد كائن طفيليّ لا نفع للأدب فيه ولا فائدة، وقائل إنّ النقد ضرورة لا غنى عنها، وما نراه أنّ الأصل في الظهور هو الإبداع.

 

ولكن متى يكون النقد خلاقاً؟ ومتى يكون مقصراً في كشف جوهر الإبداع الأدبي؟

– يكون النقد خلّاقاً مبدعاً إذا كانت وظيفته أن يخلق الإبداع، فبمجرد أن يحصل ذلك ينتهي دور النقد، وماذا يقال في الإبداع الذي لا ينتظر نقاداً ليخلقوه؟ الأساس في النقد، كما نرى اليوم، أن يوصّف الإبداع توصيفاً صحيحاً، بأي منهجية أراد، ثم يتجاوز هذا التوصيف إلى تحليل، فتقويم مؤسس على ذوق معرفي مدرّب، ولعلّ أهم ما يمكن أن يقدّمه النقد في السياق الثقافي الراهن يتجلى في كشف الزيف والدجل، وأن يكون منصفاً في قراءة التجارب الإبداعية، بعيداً عن بريق الاسم أو مكانته في الحياة الواقعية، أو فاعلية من يقف خلف أظهاره من مؤسسات إعلامية وجهات مختلفة، مع التأكيد على أن لا حيادية في النقد بل موضوعية، وعلى الناقد أن يكون ذا موقف، إما قبولاً وإما رفضاً، وكل ذلك بدليل بيّن وحجّة ظاهرة، أما الصمت فقد يكون أبلغ من الكلام في كثير من المواقف، ومع هذه البلاغة المفترضة يكون الناقد مقصّراً في كشف جوهر الإبداع، إذ لا يكون مؤسساً لمساراته، موضحاً طرائقه، معرّفاً بأهله وأصحابه الذين يستحقون وصف “مبدع”.

 

ما بين قلب الشاعر وعقل الناقد.. كيف تستطيع التملص من سطوة الناقد لتمارس غواية الشعر؟

– “قلب الشاعر وعقل الناقد”، في هذه العبارة يستتر الجواب، إذ يمارس الشعر غوايته في الوقت الذي يريده أو يختاره هو، أما النقد فيمارس نشاطه في الوقت الذي يختاره الناقد. عندما يكتب الشاعر الناقد شعراً ووعيه حاضر في النص على أنه ناقد، يتدخل الذهني والعلمي والمخطط له بوعي واختيار مقصود في تشكيل نصه؛ وعلى القارئ أن يتخيل تأثير هذه المتباينات المختلفات بتشعب طرائقها في تشكيل النص الذي سيكون واعياً بامتياز، فقد يكون النص المنتَج جميلاً ومثيراً، ولكنه – وبحسب ما أرى – لن يكون كنص الشاعر غير الناقد، إذ سيتجاوز الانفعال العاطفي وتداعيات اللاشعور، وما هو شعوري بامتياز، وما هو ذهني أيضاً على حساب ما هو شعري حق، وعندما لا يرى الشاعر في نفسه ناقداً حقيقياً قد يكون شاعراً حقيقياً.

 

كشاعر في رصيده عدد كبير من المجموعات الشعرية.. هل نالت هذه المجموعات حقها من قبل النقاد؟ وأي ناقد ما زلت بانتظاره؟

– ما يطمئن إليه أي شاعر هو تناول تجربته الشعرية من قبل الدارسين الأكفياء، وهو ما سعدت به في قراءة أستاذيّ العزيزين لنماذج مما كتبت، وهما د. محمد عبدو فلفل ود. راتب سكر. كانت حروفها تشتعل في وجداني وتضيء فضاء روحي، وهو ما ينتظره الشاعر من قارئيه ونقاده، وثمة الكثير في ما أزعم أنه بحاجة إلى مزيد من الضوء ليكون مشرقاً أكثر.