منظومة الرموز
ناظم مهنا
أعتقد، أن اللغة منظومة من الرموز، متفاوتة الكثافة، وهي بتطوّرها وتراكماتها، ولدت رموزاً على الرموز البدئية، حتى باتت اللغة مع رموزها تعيد تشكيلنا، فنحن كائنات رمزية داخل اللغة، وبهذا المقدار، وهذه المتاهة، وهذا الغموض يدور تفكيرنا وننتج نصوصنا، ونواصل صياغة الإشارات والصور التي تختزن دلالات، أو يراد لها أن تختزن دلالات. وحين تَطبق علينا المنظومات الرمزية بإحكام، نجد أننا نحتاج إلى التفسير والتأويل وفك الرموز بالقراءة والتأمل!.
قد يبدو الإنسان على المستوى العام، بسيطاً للغاية، ويتوق أحياناً إلى التعقيد، وربما يكون العكس هو الصحيح، أي أنه معقد ويتوق إلى البساطة التي تعادل الحرية! لجأ الإنسان منذ القديم إلى الرموز، ولم تفلح النزعة العلمية للفكر الوضعي بمراحلها، على الرغم من كل الحملات المركزة ضد الرموز والفكر السحري، من زعزعة هذا الجبل الراسخ من كينونة الإنسان، إلا لفترة قصيرة! وتبدو اليوم النزعة العلمية مدحورة أمام المستوى السوقي من الرموز المقنَّعة التي تتحدث عن القوى الخفيّة، وأشكال عديدة من الشعوذة والسحر والتنجيم! وهذا النوع من الترميزات الشائعة، تختلف عن البعد العرفاني في الرموز التي نقصدها هنا. هذه الرموز هي جزء من الواقع، لا يمكن فصلها عنه أو فصل الواقع عنها، وأي تطرّف أو تعسف في فصل الواقع عن الرموز أو العكس يوقعنا في سوء الفهم. البشر يحلمون في النوم وفي اليقظة، والأحلام تشكل مخزناً كبيراً، أو بنكاً مركزياً للرموز، وهذا ما يؤكده الانتشار الواسع عبر العصور لتفسير الأحلام، وفك رموزها، على المستوى العام والخاص، الشعبي والرسمي. النصوص الشفهية والمكتوبة؛ من أشعار وحكايات وأساطير وملاحم ورسومات ونقوش وأشكال هندسية وأرقام تشكل مُجمّعات وطِغماً رمزية ممركزة، يطيب للإنسان أن يفسرها أو يؤولها أو يفكك ألغازها، حسب مصطلحات كلِّ عصر،
إن الرموز، حسب بول ريكور، تمدُّ جذورها المتينة في أصقاع الحياة والشعور والعالم، ولأنَّ لها ثباتاً استثنائياً، فإنها تفضي بنا إلى التفكير بأن الرمز لا يموت بل يتحوّل فقط. إذاً، يواصل الإنسان صياغة رموزه، وتكون اللغة أو الصور رمزية حين تدلُّ على أكثر من معناها الواضح والمباشر. ويرى كارل يونغ، أنه مع اكتشاف العقل للرمز، يجد الإنسان نفسه منقاداً إلى أفكار تقع ما وراء قبضة المنطق. وكان علماء الخطاب قد ميّزوا بين مستويين في استخدام اللغة، الأول: أسطوري، يشمل الفنون والآداب والخيال، والثاني: منطقي، يشمل العلوم بشتى فروعها. وإذا صح هذا الكلام، فلا بدَّ أن يلتقي المستويان في ارتباط كل منهما بالواقع، فلا خيال خارج الواقع، ولا نستطيع فصل المجاز أو الرمز عن اللغة. سبق لماكس فيبر أن دعا إلى إزالة السحر عن العالم، وآخرون دعوا إلى نفي الميتافيزيقيا عن التفكير العلمي، وحتى عن الشعر أيضاً، ونحن نسمع اليوم، ومنذ عقود الدعوات لتنقية القصيدة من المعنى ومن الفجوات الميتافيزيقية، بحشد المزيد من الحسية!. لكن هذا يلقى مقاومة لاشعورية من اللغة نفسها، إذ سرعان ما تسربت خزانات الذاكرة واللاشعور، وبرزت إلى الواجهة كل أشكال التفكير الخرافي لينتقم من الأعداء العلمويين! ومن هنا تأتي أهمية إنشاء التوازن، والاعتراف بقيمة الرموز التي تتوالد بشكل يومي، تتوالد من أصل ثابت وقديم متأصل، يمكن أن يكون خاضعاً لمنطق التحليل.. وهذا ما أكد عليه يونغ، حين قال: “إنَّ خافيتنا (الأوروبية) حافلة بالرمزية الشرقية، ولا يمكن الوصول إلى الخافية، أو التعبير عنها إلا بالرموز، فالرمز هو التعبير البدئي عن الخافية، لكنه يتطابق مع أعلى مستويات الحدس الذي ينتجه الشعور”.