أرض الشمس.. حين تجبر الحكاية التاريخ على الإنصات!!

“البعث الأسبوعية” ــ رامز حاج حسين

 

لعبة صناعة التاريخ

بين الفينة والأخرى يتطاول عمل فني ما ليبلغ مجده درجة رفيعة من الشهرة، ويكون مثار حديث نقاد ومهتمين بجنس ذاك العمل، ويتم التطرق له في المحافل والندوات، وتنبري الأقلام للتمجيد أو للنقد والتمحيص؛ ومهما كان الأمر، فإن ذلك سيدل على أن العمل يحمل بذور النجاح والشهرة والجماهيرية العالية.

من تلك الأعمال، هناك نمط الأعمال التي تتصف بالملحمية، فترى أفلاماً في السينما تثير إشكالية عالية وتكون مثار إعجاب وشهرة عريضة.

أذكر حين كنا أطفالاً أن الملحمة الصينية الكبرى التي تسمى “معركة المنحدر الأحمر”، التي نشبت خلال نهاية عهد الإمبراطور هان، كانت محور صناعة فيلم كرتوني من جزئين بعنوان (صراع الجبابرة)، ولا يزال الجيل الذي أنتمي له، وعدة أجيال لاحقة، تتحدث عن تلك الملحمة، والفيلم الذي ما زال راسخاً في أذهاننا حتى اللحظة، وتم تحويله فيما بعد إلى مسلسل تلفزيوني كبير تحت مسمى (صقور الأرض) بالنسخة المعرّبة.. وقام المخرج الهوليودي العالمي جون وو بتحويله إلى تحفة سينمائية، وكانت براعته في إخراج الملحمة إلى النور ليس لها نظير.

بالمقابل، فإن عملية عسكرية ضخمة في التاريخ، كعملية الحلفاء، الشهيرة بعملية (إنزال النورماندي)، عام 1944، كانت محور العمل السينمائي (إنقاذ الجندي رايان) الذي قام بإخراجه المخرج المشهور ستيفن سبيلبيرغ، حتى إن بعض النقاد، لشدة الإعجاب، قالوا: إن سبيلبيرغ جعل الحرب العالمية تنشب من جديد، ثم قام بتصويرها، وكان هذا الوصف يعبر بحال من الأحوال عن وجهة نظر كل مشاهدي الفيلم الكبير.

 

أرض الشمس والشهداء

الشاهد من تقديمي لهذه الكلمات كان حضوري على أرض السيدة زينب، في ريف دمشق، عملاً ملحمياً عالي المستوى من ناحية الإبهار والمؤثرات واللغة البصرية العالية والحبكة الدرامية التي بنيت عليها أحداث العمل، حيث قامت مؤسستا “أوج” و”مهاد للإنتاج الفني”، بالتعاون مع مديرية المسارح والموسيقا في وزارة الثقافة، بإنتاج عمل مسرحي ضخم في الهواء الطلق، بذلت فيه كل الإمكانات المتاحة من تقنيات وخبرات وتفاصيل فنية؛ وكان العمل باختصار رحلة للعقل والروح منذ بدء الخليقة وحتى الوقت الراهن، وصراع الأخيار والأشرار على تراب هذه الأرض، محاولة ناجحة لإجبار التاريخ أن يجلس هنيهة ها هنا، ويكتب في أوراقه بطولات نسجها الدم والعرق والأمل، بناء حضارة هذه الأرض.

 

أنت تعيش داخل الحكاية

الحكاية، وقصة البطل، تحتاج إلى مناخ وذائقة مثقفة لتلاوتها، والمطلوب من كل صانع لأدب الطفل بصنوفه المتنوعة أن يكون مالكاً لتلك الذائقة.

في إحدى فقرات العرض المسرحي الضخم “أرض الشمس”، كان هناك تلة من تراب وحجارة صنعها مخرجو العمل، وجعلوا حفنة من الأبطال، يجسدون أبطال ميسلون، يلتفون حول القائد الشهيد يوسف العظمة – قبل لحظة وجدانية وهو يترك سورية وابنته الوحيدة ليلى أمانة في عنق خلفائه ومن يتبعهم إلى يوم الدينونة- وفي المشهد على الجبل تصدح كلمات الكرامة وحكاية الفداء، ويتشعب بنا المشهد بين تفاصيل المشهد التاريخي لاقتحام غورو أرض سورية، ورفض أولئك الرجال أن يمر الأمر بطريقة سهلة وميّسرة للعدو؛ وتنخلع قلوب الحاضرين للحظة القصف المشابهة للحقيقة، بكل تأثيراتها النارية والصوتية والبصرية، للحظة اغتيال الشهيد، ويعلو التصفيق لأننا شاهدنا حكاية يوسف العظمة في كتاب مفتوح؛ وكان ذاك الكتاب كتاباً قصصياً ملحمياً، كما تحب أن تقرأه، يمر أمام ناظريك.

 

خطوة نحو الأمام

العمل ببساطة يعتبر خطوة ناجحة بقوة، وبكل معاني التفوق، على طريق التطور للحكاية الطفلية، وتقديم الوجبة الثقافية لليافعين وللأسرة السورية كما يليق بالإرث الحضاري لوطننا. نحتاج بعد صحوة السكر من نشوة العمل، وحين سيسدل أصحابه الستارة على العرض الأخير، أن نحوّل كل تفكيرنا وزوايا ثقافتنا وطرقها إلى ورشة عمل شبيهة بورشة فريق (أرض الشمس)؛ فلا عذر بعد الآن، الأمر بات متاحاً، وبالإمكان. وقد أثبت الشباب والفنيون هناك أن ما نطالب به متاح وممكن، وأن فن صناعة الممكن هو مهنة السوري منذ الأزل.. (أرض الشمس) بوابة من بوابات النجاح بالعرق والفكر السوري الخالص والنبيل، وبطاقة عبور نحو تغير نمط صناعة الثقافة السورية.

الحكاية بألقها وجوهرها بالإمكان أن تكون هكذا متواكبة مع التقانات، ومتطورة في طرحها الفني ولغتها البصرية العالية

***

يقول جوزيف كامبل في كتابه البطل بألف وجه: “البطل يترك عالم الحياة اليومية، ويفتش عن مجال المعجزة ما فوق الطبيعة، فإذا ما تغلب على قوى هائلة، وأحرز نصراً حاسماً، عند ذلك يعود من رحلته المليئة بالأسرار مع المقدرة لكي يزود بني البشر من جنسه بالنعم والبركات. إن رحلة مغامرة البطل – سواء أكانت ممثلة في الصور البعيدة الأوقيانوسية الاتساع للشرق، أم في حكايات الإغريق الفعالة، أم في سير التوراة – تتبع في العادة ترسيمة وحدة النواة الموصوفة في الأعالي: انفصال عن العالم، صراع من أجل مصدر القوى ما فوق الطبيعة، ومن ثم العودة التي تأتي بالحياة”.

نحتاج أن نؤمن أن الجيل السوري الخارج من أتون هذه السنوات المريرة قادر، وبقوة، على أن يكون بطل المستقبل، وبإمكانه العودة لأهله في سورية بكل أصناف الأكاسير الناجعة لبلسمة الجراح وبناء صرح حضارتنا.