مجلة البعث الأسبوعية

تسوية مموهة بكلمات ناعمة مثل السلام والازدهار.. الجيوب الفلسطينية تجسد الرغبة في رؤية الفلسطينيين يختفون من الخريطة

البعث الأسبوعية- هيفاء علي

شكّل إنشاء الجيوب الفلسطينية تسوية داخلية داخل الكيان الإسرائيلي، حيث جعل الفلسطينيين يختفون دون طردهم، وحوّل الضفة الغربية وقطاع غزة إلى مختبر بشري.

في اتفاقيات أوسلو الموقعة قبل ثلاثين عاماً، وافقت سلطات الكيان على تقليص الاحتلال تدريجياً، في حين اضطر الفلسطينيون إلى الوقف الفوري لكل أشكال المقاومة. وقد فسر كل طرف هذا التخفيض بما يراه مناسباً، حيث أمل المفاوضون الفلسطينيون أنه مقابل التنازل عن 78% من فلسطين التاريخية بحلول نهاية عام 1999 (دون التخلي عن الروابط الشخصية أو الأسرية أو الثقافية أو العاطفية أو التاريخية لشعبهم)، ستنتهي السيطرة العسكرية الإسرائيلية على الأراضي المحتلة عام 1967 وينتهي الاحتلال الإسرائيلي، وأنه سيقيم الفلسطينيون دولتهم فلسطين هناك. بينما خلص الإسرائيليون إلى أنهم حصلوا على مقاول للقيام باعتقالات وتعقب المعارضين، دون مشاركة المحكمة العليا الإسرائيلية والمجموعة الحقوقية “بتسيلم”، كما قال رئيس الوزراء في ذلك الوقت، إسحاق رابين.

تأكد المفاوضون الإسرائيليون من أن الاتفاق المكتوب يفصل مراحل العملية دون ذكر أهداف ملموسة (دولة، أرض، حدود ثابتة)، وبما أن “إسرائيل” تعتبر نفسها هي الطرف الأقوى على اعتبار أنها تحظى بالدعم الكامل من واشنطن والمجتمع الدولي، فإن تفسيرها هو الذي ساد، والذي حدد الطبيعة الأبدية وشكل “الانكماش”: إضفاء الصبغة الإسرائيلية على أكبر عدد ممكن من الأراضي، وداخل هذه الجيوب، جيوب الحكم الذاتي الفلسطيني -المنفصلة والمضعفة والممزقة، والتي يتم التحكم فيها عن بعد، مع قدرة “إسرائيل” على عزلها عن بعضها البعض.

بفضل اتفاقيات أوسلو، أعفت “إسرائيل” نفسها من مسؤولية المحتل تجاه السكان ورفاههم، بل وأحكمت السيطرة على الأرض والمياه والهواتف الخليوية والمجال البحري والجوي وحرية الحركة والاقتصاد والحدود، حيث تستفيد بشكل كبير من أدوات السيطرة هذه، لأنها على رأس مختبر بشري كبير، حيث تقوم بتطوير واختبار صادراتها الأكثر ربحية: الأسلحة والذخائر وتكنولوجيات المراقبة. والفلسطينيون في هذا المختبر، المحرومون من السلطة والذين تتضاءل مواردهم، تقع على عاتقهم مسؤولية إدارة مشاكلهم وشؤونهم المدنية.

يظل الفلسطينيون بمثابة مجمع للعمالة الرخيصة بالنسبة للإسرائيليين، حيث يتم تمرير العديد من تكاليف الاحتلال إلى الفلسطينيين في شكل سلع وخدمات يضطرون إلى شرائها، ولكن لا يمكنهم تطويرها لأن “إسرائيل” تسيطر على معظم الأراضي والحدود والاقتصاد بشكل عام.  ثم تأتي الرسوم الباهظة على المعاملات المالية (مثل تحويل الأموال من الجمارك إلى الخزينة الفلسطينية)، والجبايات والغرامات التي تذهب عائداتها إلى الشرطة والموانئ والإدارة المدنية والجيش، ورسوم المعابر الحدودية الإسرائيلية مع الأردن، ورسوم المعاملات والتسجيل العقاري.

لقد أعفت الدول الغربية “إسرائيل” من التزاماتها المالية باعتبارها القوة المحتلة، ومولت الكثير من نفقات الإدارة والصيانة والتنمية المحدودة في الجيوب الفلسطينية، والتفسير هو أن هذا ضروري لإقامة الدولة الفلسطينية. ولكن لسنوات، ضاقت الدول الغربية ذرعاً من دعم الاحتلال ومشاكله، ولذلك هي تعاقب الفلسطينيين بجشعها وتحذرهم من الكوارث الإنسانية، بينما تبرم المزيد من اتفاقيات اقتصادية وعلمية وعسكرية سخية مع “إسرائيل”.

والسؤال الذي يطرحه المراقبون هو هل تم التخطيط لهذه الجيوب سراً خلال المفاوضات، حيث كانت مموهة بكلمات ناعمة مثل السلام والازدهار وسنغافورة القادمة؟ وهل تم تصميمها بعد اغتيال رابين عام 1995 في عهد شمعون بيريز وبنيامين نتنياهو وإيهود باراك، الذي استمر حتى عام 2001؟

قد يقول المؤرخون إن الإجابات الكاملة لن يتم تقديمها إلا بعد نشر جميع الوثائق ذات الصلة، ولكن بالنسبة للناشطة والصحفية ” أميرة هاس”، فليس من المهم ما إذا كانت الأوامر المكتوبة الصريحة قد صدرت ومن أصدرها، لأن السياسات يتم تنفيذها حتى في غياب الأوامر المكتوبة، والوثائق التي تقدمها ليست تصريحات وابتسامات، بل هي حقائق على الأرض. فمنذ الأشهر الأولى للعملية، خلال حكومة رابين، استنتجت الناشطة أن “إسرائيل” لا تسعى إلى السلام بل إلى تحقيق نصر حاسم على حساب الشعب الفلسطيني. وبالتالي تؤكد أن الجيوب الفلسطينية هي نتيجة تخطيط متعمد من قبل الإسرائيليين الذين كانت أفكارهم وأدواتهم ومؤسساتهم متجذرة بالفعل قبل عام 1948. وبالتالي، فإن الجيوب الفلسطينية هي تسوية إسرائيلية داخلية تجسد الرغبة في رؤية الفلسطينيين يختفون من الخريطة. ولأسباب جيوسياسية، لا يمكن العودة إلى عام 1948، أي أنها لا تستطيع طرد الفلسطينيين مرة أخرى، لذلك الحل بنظرها هو اجتياحهم وزجهم في جيوب، والخلافات بين المعسكرات الصهيونية المختلفة تتعلق فقط بعدد الجيوب وحجمها، وليس بالجوهر.

وهنا تستعرض الصحفية بعض الحقائق التي أصبحت واضحة بين عامي 1994 و1997 والتي تشير إلى التخطيط المبكر للجيوب الفلسطينية: قطع غزة عن الضفة الغربية، حيث تعد هذه الخطوة الأولى في تفتيت كامل الأراضي المحتلة عام 1967 وإخلائها من سكانها، في تناقض صارخ مع الاتفاقيات التي تنص على اعتبار الجانبين قطاع غزة والضفة الغربية وحدة إقليمية واحدة. وتتكون التجزئة من ثلاثة عناصر:

  • الحد من حرية الحركة: في كانون الثاني 1991، أدخلت السلطات نظام تصريح الحركة والمرور، ومنذ ذلك الحين، يُحرم جميع الفلسطينيين من حرية التنقل، باستثناء فئات قليلة، يحصل بعضهم على تصاريح.
  • منع تغيير العنوان من غزة إلى الضفة الغربية: نصت اتفاقيات أوسلو على السماح للسلطة الفلسطينية بتحديث العنوان الموجود على بطاقة هوية الشخص إذا أبلغت الإدارة المدنية الإسرائيلية، التي لا تزال تملك وتسيطر على سجل السكان. في عام 1996، اكتشف مسؤولو السلطة الفلسطينية أن الإدارة المدنية لم تسمح لهم بتحديث عنوان مدينة غزة في رام الله، على سبيل المثال، مقابل نابلس في رام الله، وكلاهما يقع في الضفة الغربية.  وقد أثر هذا الوضع على آلاف سكان غزة الذين عاشوا وعملوا في الضفة الغربية لسنوات.
  • منع دخول سكان غزة إلى الضفة الغربية لسكان غزة، وهذا الأمر شكل مشكلة كبيرة لدى العمال وطلاب الجامعات والمدارس، وقد وجد الطلاب من غزة الذين درسوا في جامعات الضفة الغربية طريقة للالتفاف حول هذه السياسة، فقد استقلوا رحلة جوية من مصر إلى الأردن ودخلوا الضفة الغربية عبر جسر اللنبي. كما سافر رجال أعمال من غزة جواً من مصر إلى قبرص، ثم إلى مطار بن غوريون، قبل دخول الضفة الغربية بالسيارة.  عند عبور الحدود، كان هؤلاء الأشخاص دائماً يتمتعون بوضع “المقيمين”، بغض النظر عن جزء الأراضي المحتلة عام 1967 التي أتوا منها. ولكن حوالي عام 1996 أو 1997، مُنع سكان غزة من الدخول إلى الضفة الغربية عبر جسر اللنبي، وبالتدريج مُنعوا أيضاً من الدخول عبر مطار بن غوريون، وهو المصير الذي احتفظ به البعض فيما بعد لسكان الضفة الغربية. ومنذ عام 2000، لم تعد “إسرائيل” تسمح لسكان غزة بالدراسة في جامعات الضفة الغربية، وهذا الحظر وافقت عليه محكمة العدل العليا.  وقد ساعدت هذه الإجراءات في فرض حظر فعلي على سكان غزة في الضفة الغربية. وكانت الخطوة المنطقية التالية هي الحظر الرسمي الذي فرضته “إسرائيل” على استيطان سكان غزة في الضفة الغربية.

المستوطنات

تم تخطيط الطرق وفق احتياجات المستوطنين، دون الأخذ بعين الاعتبار المنطق الجغرافي والديمغرافي للمدن والقرى الفلسطينية واحتياجاتها. وقد وفر الطريق الالتفافي النفقي، الذي بُني في عهد رابين، سهولة الوصول بين كتلة غوش عتصيون الاستيطانية والقدس.  وفي عهد رابين أيضاً، طُرد أفراد عشيرة الجهالين من منازلهم وتمت مصادرة ممتلكاتهم ومنازلهم وأراضيهم للسماح بتوسيع مستوطنة معاليه أدوميم. وبعد قيام الصهيوني باروخ غولدشتاين بقتل 29 من المصلين في الحرم الإبراهيمي في الخليل عام 1994، عاقب جيش الاحتلال فلسطينيي الخليل بفرض حظر التجول أثناء تصميم الترتيبات الأمنية للمستوطنين، الأمر الذي أدى إلى عملية إخلاء وسط المدينة من سكانه الفلسطينيين.  لم تكن هذه زلات لمرة واحدة، بل كانت قرارات متجذرة في رؤية الفلسطينيين باعتبارهم شعباً من الدرجة الثانية.

وخلال المفاوضات التي سبقت توقيع اتفاقيات أوسلو الثانية في عام 1995، اعتُبر التقسيم المصطنع والمؤقت للضفة الغربية إلى مناطق (أ) و(ب) و(ج) خطة عمل ضرورية لإعادة الانتشار التدريجي للجيش والتوسيع المرتبط بالسلطة القضائية وسلطة الشرطة في السلطة الفلسطينية. وكان سيحدث هذا أولاً في المدن، ثم في القرى، وأخيراً في بقية الأراضي، باستثناء قواعد الجيش الإسرائيلي والمستوطنات.

ولو تم أخذ احتياجات وحقوق الشعب الفلسطيني في الاعتبار، وليس فقط أمن المستوطنين، لما كان المفاوضون الإسرائيليون ليربطوا مثل هذا الارتباط الوثيق بين “الأمن” وحظر التنمية الفلسطينية والبناء.

وقد حدّد هذا الحظر حدود الجيوب الفلسطينية في وقت مبكر جداً، وأثبت أن الأمن، كما هو الحال دائماً، كان ذريعة ملائمة للاستيلاء على الأراضي الفلسطينية. على نحو منفصل، اكتشفت شركات الحافلات الفلسطينية المرخصة منذ أيام الانتداب البريطاني والحكم الأردني، إلغاء رخص سيرها عبر القدس الشرقية وقد أدى العدد المتزايد من نقاط التفتيش إلى صعوبة وصول الفلسطينيين إلى المرافق الصحية والمؤسسات الدينية والمؤسسات التعليمية في العاصمة. بينما ويستمر منح تراخيص البناء للإسرائيليين اليهود، في حين يظل البناء محظوراً على الفلسطينيين على الدوام.

مراقبة السجل السكاني

احتوت اتفاقيات أوسلو على اختراق فلسطيني كبير: لم تعد “إسرائيل” تملك القدرة على إلغاء وضع الإقامة للفلسطينيين في غزة أو الضفة الغربية (باستثناء القدس الشرقية) بسبب الإقامة الطويلة في الخارج، وكانت هذه السلطة ولا تزال تعادل النقل القسري للسكان.  ومع ذلك، فبينما كان التفاوض بشأن أوسلو 2 قيد التفاوض بين كانون الثاني تشرين الأول 1994، شعر المسؤولون في الإدارة المدنية ووزارة الداخلية بالحاجة الملحة إلى إلغاء وضع الإقامة لنحو 25645 فلسطينياً ولدوا وترعرعوا في الضفة الغربية، ما يقرب من خمس العدد من الفلسطينيين المطرودين منذ عام 1967، مع طرد عدد مماثل من الفلسطينيين المولودين في غزة. واحتفظت “إسرائيل” أيضاً بالحق في تحديد عدد السكان الجدد الذين سيتم إضافتهم إلى سجل السكان الفلسطينيين، باستثناء الأطفال حديثي الولادة والأطفال القصر للمقيمين المسجلين.

لقد وعدت اتفاقيات أوسلو بأن يناقش الطرفان عملية إعادة وضع الإقامة للفلسطينيين المحرومين من هذا الوضع بين عامي 1967 و1994. وقد فهم المفاوضون الفلسطينيون أن هذه مسألة فنية، ولكن المماطلة الإسرائيلية والمفاوضات المذلة التي أمدت من خلالها القضية إلى وضعها على الرف، أثبتت أن السيطرة على الديموغرافيا الفلسطينية لم تكن قط مسألة فنية، وإنما كانت أمرا حاسماً بالنسبة للمفاوضين الإسرائيليين، الذين كانوا يعلمون أن الأراضي التي كانوا يخصصونها للفلسطينيين كانت محدودة بالفعل. وأشار المفاوضون الفلسطينيون في وقت مبكر إلى أن “إسرائيل تريد الفوز بالسلام كما فازت بالحروب، ولهذه الأسباب، تعتبر الصحفية أن اتفاقات أوسلو، فشلت فشلاً ذريعاً بالنسبة للفلسطينيين، ونجحت فقط بالنسبة “للإسرائيليين”.