مجلة البعث الأسبوعية

الفانتازي كوجهٍ آخر محتمل للواقع

“البعث الأسبوعية” ــ أوس أحمد أسعد

هل يمكن أن يكون العجيب والغريب والفانتازي، بمعنى ما، مستوى آخر من مستويات واقع لامرئيّ، متوارٍ، محتجب، مقموع، مُشتهَى ومحلوم به، يتحيّن فرصته للانبلاج والظّهور من المستوى الذّهني، إلى الواقعي المادّي؟ مستوى يحمل في نويّاته إمكانيّة التحقّق، لكن لعوائق موضوعيّة، أو لتابوات “ثقافيّة اجتماعية” مهيمنة، حُوصر وانحسر إلى الظلّ، مفسحاً المجال لواقعٍ آخر، محسوس توافرت له إمكانات الوجود؟ على مبدأ القول الفلسفي “البذرة شجرة بالقوّة، ما إن نزرعها ونوفّر لها شروط ومناخات النّمو حتى تصبح شجرة بالفعل!”؛ ثمّ إلى أيّ حدّ يمكن لهذا المطمور والمغيّب أن يعكس ثقافة المرحلة التي غيّبته وطمرته، أو يعكس الوجه المسكوت عنه لهذه الثقافة؟ أم ترى العجيب والغرائبيّ والخارق سيبقى مستحيل التحقّق، ولن تتوافر شروطه أبداً، لأنّه بتوافرها سيفقد قيمته كحلم فانتازي شهيّ، على اعتبار أنّ الحلم بطبيعته، كمسار نفسي، روحي، تخييلي، هو مشروع غير منتهٍ، لأنّه لا نهاية للمتغيّرات التي تساهم بتشكّله، فهو عابر للحالة الفرديّة إلى الفضاء الجمعي، كونه يحمل معنى وفلسفة الحياة ذاتها، وأسئلة الوجود المجتمعيّ والفردي التي لا تطمئنّ لأجوبة نهائيّة الحياة الدائمة التحوّل في صيروراتها المورقة. لعلّ هذا المعنى الفلسفيّ، هو الذي منحه شرفَ التسمية هذه، من يدري؟! لكن، أثمّة استحالة حقّاً في التّحقق لو استُثمرتْ طاقة الكائن الأسمى “الإنسان”، كائن التّفكير والتّخييل، كائن الإبداع والخلق، بالشّكل الصّحيح؟ ألا يتفق أغلبنا على أنّ ما كان خارقاً وغرائبيّاً وفانتازيّاً، في ماضي الأيّام، أصبحَ واقعاً حاضراً نعيش نتائجه المبهرة بشتى المجالات!! ولا أعتقد أنّنا بحاجة للأمثلة، فكيف إذن لو وثقنا بالمستقبل أكثر، وهو الذي يُفترض أن يمور ويفور بكلّ صنوف القفزات والاكتشافات العلميّة المذهلة، قصص الخيال العلمي التي كان ينكرها الكثيرون، ولم تكن تعني لهم أكثر من حالة هذيانيّة تخييليّة، أو ضرباً من ضروب الجنون.

في مادتنا الصغيرة هذه، ستكتفي بإيراد مثالٍ سرديّ ذي محمولٍ ثقافيّ مبطّن نبشناه من إحدى المرويّات التاريخيّة الفانتازيّة الكبرى، أظنّه سيشرحُ ما عنيناه أعلاه بطريقةٍ ما. في كتاب “ألف ليلة وليلة” العجائبيّ الأحداث، سنحظى بسرديّة قصصيّة عنوانها “حكاية الحسن البصري” نعتقد أنّ مطمور خطابها، يمكنه أن يساعدنا بتحليل نمط الثقافة المسيطرة التي أنتجته، بأعرافها ومنظوماتها الأخلاقيّة معاً، حيث ترشحُ من ثناياه نظرة المجتمع المهينة لمكانة المرأة ولكيانها عموماً، في ظل هيمنة الثقافة الذّكوريّة. وهذا ما نلمس تجلّياته بقوّة في أغلب قصص المتوالية الحكائيّة المذكورة، والتي تمتدّ على مساحة زمنية وفيرة اللّيالي والأحداث، ترويها الأنثى “شهرذاد” على مسامع ملكها السّادي “شهريار”، تجنّباً لقتلٍ مجّاني سيحدث في الواقع، لا في المجاز، ستكون ضحيّته، فيما لو تعكّر مزاج “الملك/ الذّكر”، المستمع، لسببٍ ما. أو خفّفتْ السّاردة من عناصر إدهاشه ومفاجأته بأحداث جديدة، أو تراختْ خيوط نسيجها السّردي لتفقد تدريجيّاً متعة التّشويق. مع ذلك سيجد العقل التّفكيكي بهذه السرديّة، مفارقة مهمّة قد تكسر، بوجهها الآخر، زجاجَ الثقافة المهيمنة دون أن تدري؛ حيث لأوّل مرّة نجد المؤنّث يروي ويتكلّم، والمذكّر ينصتْ بشدّة ويتأمّل بما يسمعه”.

تقول “قصّة الحسن البصري، بأنّ شاباً وسيماً بدّد ثروته في الملذّات والخمرة، وأبحرَ نحو جزرٍ بعيدة لكي يعيد تكوين نفسه من جديد على المستوى المادّي – كما يفعل رجال الأعمال في عصرنا الحالي حين يذهبون إلى بلدان غنيّة بهدف تجميع الثروة، ثمّ يعودون ليستثمروا ما جمعوه، بمشاريع اقتصاديّة تدرّ عليهم الرّبح الوفير . وبينما هو يراقب المدى متأملاً من شرفته ذات ليلة، بهرت عينيه رشاقة حركات سربٍ جميل من الطّيور، يحطّ على الشاطئ، فارداً أجنحته بمنتهى البهاء، ثمّ يبادر إلى خلعِ كسوة الريش، متحوّلاً إلى كائنات أنثويّة فاتنة الجمال، تميّز منها طائر فريد بجماله الخاصّ أكثر من غيره. ثمّ بعد مرحلة نزع الرّداء الرّيشيّ، تنزل هذه الكائنات المؤنّثة الجميلة إلى البحيرة لتغتسل وتسبح. وبعد تأدية طقسهنّ، يلبسنَ رداء الريش متحوّلاتٍ إلى طيور مرّة أخرى. ثمّ يحلّقن في البعيد. ومعهنّ تلك الجميلة التي استلبت عقل وقلب الحسن البصري. لذلك يضمر بنفسه أن يتزوّجها مهما كانت التكلفة. هكذا يكمنُ لها في اليوم التالي ويأخذ ثوبها ويخفيه. وبهذه الحيلة يتمكّن من السيطرة عليها، تحت تهديد عريٍ مجازي تستبطنه السّرديّة، ولا تلحظه الأخلاق والقيم السائدة، عري يمتلكه الذكر المهيمن، كرأسمال رمزي يشهره حين تحدث المساومة بينه وبين الأنثى الرّافضة له، والتي تخشى من افتضاح أمرها، في مجتمع ذكوري لا يرحم.. وهذا ما حدث، حيث باءت كلّ محاولات المسكينة في إيجاد ثوبها بالفشل. بهذا الكمين الخبيث ينجح صاحبنا في أسر أنثى “الحلم”، ويتزوّجها، ثمّ يغرقها بالجواهر الثمينة، محوّلاً إيّاها إلى مؤسسة إنتاج وتفريخ، لتنجب له “المنصور والناصر”.

حتى الآن، تبدو السرديّة وكأنها تستعين بالخيالي في توضيح وترسيخ الواقع الاجتماعيّ المعيش، لكن ما إن تبدأ دورة الحياة من جديد، ويقضي وطره منها، حتى يحنّ صاحبنا إلى التّرحال من جديد، للبحث عن مصادر جديدة لثروته، وتشوّفاته الحلميّة، فيترك زوجته في عهدة أمّه، وتحت رقابتها الصارمة.

لاحظ أيّها القارئ العزيز “كيف تستخدم الثقافة الذّكوريّة، المرأة ضد المرأة، فالمرأة المهجّنة تسجن المرأة الحرّة وتحاول ترويضها لإشباع رغبة الذّكر وحسب”، مؤكّداً عليها بألا تسمح لها بإيجاد رداء ريشها، الذي أخفاه في مكان معيّن، تعرفه الأمّ وحدَها. لأنّه يعلم علم اليقين، أنها ستتركه حينها بالتأكيد، وستأخذ أولادها معها. فهي في قاموسه، ليست أكثر من أداة لمتعته الشخصيّة، ولا يستطيع أن يراها كياناً مستقلّاً. وهذا ما حدث تماماً، فقد وقع المحظور، وهجرته الزوجة الرافضة للأسر مع أولادها، بعد أن وجدت لباسها، رغم الرقابة المفروضة عليها. هنا نجد رمزيّة مهمّة، وهي أنّ المرأة الواعية الحرّة لم تستكن لظروفها، وتفضّل دور الخادمة، كما تحاول الأعراف الاجتماعيّة أن توهمنا، وأنّها هي من يستطيب الأسر والتّهجين، على مبدأ العرف القائل “كل قطّ معلّق بخنّاقه”؛ لذلك نراها تناضل جاهدة في سبيل حريّتها، وها هي تحلّق مع أولادها نحو جزر “الواق واق” الخياليّة البعيدة، التي حاول بعض كتّاب التّاريخ ـــ دمجاً للواقعي بالتّخييلي ـــ تحديد خريطتها الجغرافية على الأرض، فقال المسعودي، “المتوفى سنة 346 للهجرة”، بأنّها أبعد من زنجبار في أفريقيا الشّرقيّة، أمّا ماركو بولو فرأى أنّها تقع في جزر الأمازون، وقيل أيضاً أنّها موجودة في جزيرة النساء في سوقطرة، وقيل في مدغشقر، وقيل بأنّها أبعد من الصين أو إندونيسيا. المهمّ أنّ الرواية الرسميّة تعود، ثانية، لتؤكّد استمتاعها باستعادة الحسن البصري لزوجته مرّة ثانية، وهذا يعكس مسألة أنّ “حركة النهوض النسوي لم تنضج بعد”، أمّا خلفيّة الرواية ومطمورها الثقافي فينضحان بموضوعها الحقيقي، وهو مسألة هجرة الرجل، وبعده عن بيته في ترحالٍ لانهائيّ، يحقّ له خلاله استطابة ما يشاء من النساء، والتّمتّع بهنّ. ولا يأخذ زوجته معه في هذا الترحال، حتى لو طلبتْ منه ذلك؛ ودورها فقط، ينحصر بانتظار عودته المظفّرة، والتي قد تكون مصحوبة بأنثى أخرى بديلة؛ والمطلوب منها أن تبقى صامتةً خنوعةً، ومتعفّفة عن الذكور والاشتهاءات الجسديّة والروحيّة حتى عودته.

كما تعكس السردية أيضاً الخوف الذكوريّ من هجرة النساء لأزواجهنّ، وخاصة أولاء القويّات منهنّ. فقد كانت الجواري مثلاً يحظين بإعجاب الخلفاء الذين يتركون واجباتهم الدينيّة والدنيويّة، ويتولهون بهنّ. وبنفس الوقت، كانوا يخشون احتمال تمرّدهن. فيعهدون إليهن بمن يراقبهنّ طيلة وقت الغياب. هكذا ترشح ثقافة “إنّ كيدهنّ عظيم” من بين سطور السرديّة، مؤكّدة ضرورة سجن النساء ضمن أسوار وتحصينات منيعة. هكذا تعكس السرديّة الفانتازيّة ثقافة “الحرملك” الواقعيّة، وقد برزت بشكلها الفاقع في العصر العبّاسي أكثر من غيره، وما زالتْ هي الثقافة المسيطرة على عموم التاريخ العربي الإسلامي حتى الآن، تحت حججٍ تتعلّق بالحرص والعفّة، وصيانة الشّرف والأخلاق. وما كلمة “النساء” سوى مفردة مرادفة لـ “الحريم” الذي يحيل إلى “الحرام” والممنوع، والمطمور، والمغيّب والمسكوت عنه، الذي يستوجب العقاب بقوّة العرف والقانون المسيطر، لكلّ من تتجرّأ على التحدّي، ولكن هيهات يسجن التاريخ في زجاجة.