المخرج مروان المؤذن: نجاح العمل السينمائي يبدأ من الإدارة واللجنة الفكرية.. ونصوص كثيرة أساءت للقضية الفلسطينية
“البعث الأسبوعية” ــ أمينة عباس
في جعبته الكثير من الحكايات والذكريات عن فنّ أحبه حتى العشق؛ وحين تلوح له هذه الذكريات يتحسر على تلك الأيام التي كانت فيها السينما تصنع مجداً لأصحابها المخلصين الذين قدموا أعمالاً تنهل من روحهم وعشقهم للفن السابع الذي أبحروا فيه، وهم لا يملكون إلا الصبر والعناد والإصرار على نقل ما يؤمنون به عبر كاميرا تحوّلت لعيون تنسج مأساة وملهاة الحياة. وحين زرتُه في مكتبه تحدث كشاهد على عصر كانت فيه السينما مغامرة لا يخوضها إلا الكبار، وهو كان أحدهم، وحين فتح أوراقه القديمة بملفاتها الكبيرة، أدركتُ أنها كنز ثمين تختزل سنوات طويلة من التعب والاجتهاد، وتلخّص أحلاماً، تحقق بعضها، وتبخر البعض الآخر؛ وحين سألتُه عن السبب أدركتُ، بصمته الطويل، أن لا إجابات محددة لديه حتى الآن سوى تأكيده على أنه لم يبتعد عن هواه في السينما، وإنما أبعد عنه .
كانت بدايتك من خلال فيلم “رجال تحت الشمس” الذي اختير كواحد من أهم مائة فيلم سياسي في تاريخ السينما العالمية..
بعد دراستي في أكاديمية فيينا للسينما والتلفزيون، عدتُ إلى سورية وشاركت بإخراج فيلم “رجال تحت الشمس”، إلى جانب محمد شاهين ونبيل المالح، وهو من إنتاج العام 1970، وكان يضم ثلاثة قصص هي: “الميلاد” من إخراج محمد شاهين، و”المخاض” من إخراج نبيل المالح، و”اللقاء” من إخراجي. وتناول الفيلم بأجزائه الثلاثة العمل الفدائي الفلسطيني الذي كان في أوجه، وقصة “اللقاء” كانت عن لقاء عابر بين فدائي فلسطيني وفتاة أجنبية تزور الأرض المحتلة لأول مرة، وهي متأثرة بوجهة نظر الدعاية الصهيونية؛ وخلال معايشتها للواقع تكتشف زيف هذه الدعاية وتؤمن بنبل وشرعية المقاومة الفلسطينية؛ وكان الفيلم من بطولة خالد تاجا، وقد اعتُبر حينها – برأي الجميع – أحسن فيلم عن قضية فلسطين لجديته الواضحة وبساطته بعيداً عن الخطابية، وكان لكل مخرج فيه أسلوبه وطريقته ولغته، وحصل على الجائزة الذهبية في مهرجان قرطاج للأفلام العربية والأفريقية، سنة 1973؛ وجاء في قرار لجنة التحكيم، المؤلفة من نقاد ومخرجين عرب وأجانب، أنه جمع شاعرية الصورة والإيقاع السردي وتوازن التعبير إلى التنويع العنيف لمأساة إنسانية، ولا سيما في الجزء المسمى “اللقاء”، الذي أخرجه مروان المؤذن”؛ كما نال “اللقاء” جائزة الفيلم الروائي القصير في مهرجان دمشق الدولي الأول لسينما الشباب، بعد أن قامت “المؤسسة العامة للسينما” بفصل أجزاء الفيلم عن بعضها، حيثُ اكتفت بعرض “اللقاء” لرصانة وقوة تعبيره عن المقاومة الفلسطينية؛ وهو جدير بأن يقنع ويؤثر في كل إنسان، وقد خاطبت في هذا الفيلم الضمير العالمي بأسلوبي الخاص، وهو أسلوب يحاول امتصاص جميع قدرات الصورة السينمائية على التعبير، ويسعى إلى جعلها شيّقة ومثيرة، وقد سخّرت المضمون الدرامي من أجل إغناء الشكل السينمائي وإظهاره في أجمل شكل، وكان إلى جانب خالد تاجا الممثلة الألمانية إيريجينا آلبرشت.
ما أهمية الجوائز التي حصل عليها الفيلم؟
أهميتها كبيرة، إذا علِمنا أن لجان التحكيم – حينذاك – كانت تضم كبار الشخصيات السينمائية في العالم، فاللجنة التي مَنَحَت الفيلم الجائزة كانت تتألف من رئيس اللجنة يوري يوزوروف، أنطوني بروسل الذي كان مدير مهرجان كارلو فيفاري، ومارسيل مارتان الناقد السينمائي الفرنسي المعروف وعضو مهرجان كان، إضافة إلى أسماء أخرى لها مكانتها في السينما العربية والعالمية، وهو تقدير كبير للفيلم ودليل على إبداع ما أُنجٍز، لأن هذه الأسماء لن تُعطي الجائزة إلا لمن يستحقها بالفعل، ومن المؤسف أن الجوائز في كثير من المهرجانات اليوم باتت توزع لاعتبارات لا علاقة لها بالإبداع الحقيقي .
ما أبرز ما كان يميز تلك المرحلة للسينما السورية؟ وأي فارق أحدثته حينها؟
لا بد من الاعتراف بأن نجاح العمل السينمائي في تلك المرحلة بدأ من الإدارة واللجنة الفكرية التي كانت تضم شخصيات مهمة: سعد الله ونوس، حنا مينة، عدنان بغجاتي، مصطفى الحلاج، قيس الزبيدي؛ وكانت هذه اللجنة تطّلع على كل ما يُقدَّم للسينما للقطاعين العام والخاص، وكان همها بالدرجة الأولى رفع سوية النصوص السينمائية للقطاعين العام والخاص، واستقطبت هذه المرحلة في فترة السبعينيات كبار السينمائيين في العالم، وسميت الأفلام بـ “السينما البديلة” أو “الجديدة”، وأنتجت أعمالاً هي الأفضل في تاريخ السينما السورية، وظهر مخرجون مميزون في تلك الفترة، وحاول كلّ منهم تقديم أعماله بأفضل صورة؛ كما شهدت تلك المرحلة ظهور المنتديات السينمائية والكتب التي تتحدث عن السينما، وكانت الصحافة تتابع ما يُنجَز على هذا الصعيد، وكان القطاع الخاص شريكاً في تقديم الأعمال السينمائية .
كانت القضية الفلسطينية موضوعاً مغرياً في تلك الفترة للكثير من المخرجين فكيف تقيّم تلك الأعمال التي تناولتْها؟
أذكر جيداً من خلال وجودي في اللجنة الفكرية، في المؤسسة العامة للسينما، كيف كانت تقدم لنا نصوص كثيرة عن القضية الفلسطينية، وخاصة من قبل القطاع الخاص، وغالبية هذه النصوص كانت تستغلُّ القضية الفلسطينية لتقديمها ضمن أفلام متواضعة؛ وأعترف أن نصوصاً كثيرة أساءت للقضية الفلسطينية، وقد حاولنا تشذيبها كثيراً لتقديمها بأفضل صورة .
بعد نجاح فيلمك “اللقاء” بدأت بإنجاز الأفلام الوثائقية والتسجيلية رغم أن هذه الأفلام ليست مغرية للمخرج عموماً.. لماذا؟
أميلُ لهذا النوع من الأفلام لأنني أرغب في أن أقول من خلالها الكثير من الأمور دون تزييف أو مبالغة، وتصوير ما يجري في الحياة، وأنا أحب دائماً الصدقية في الحياة، لذلك كانت لديّ رغبة دائمة في تقديم مضامين تتناول موضوعات من الواقع، وأرفض اللعب فيه، ولذلك لم اعتمد في أفلامي الوثائقية على الممثل، وكانت الشخصيات فيها حقيقية وواقعية، وقد شاركت أفلامي الوثائقية في العديد من المهرجانات، كمهرجان لايبزيغ السينمائي للأفلام القصيرة بفيلم “مشاهدات سينمائية في حقول النفط”، وهو من إنتاج العام 1978، والفيلم يتحدثُ عن معاناة عمال النفط في القرى الفقيرة التي وُجِدَ فيها فجأةًّ، وانعكاسات ذلك على حياتهم، وكيف تحوّل أفراد هذه المجتمعات الرعويّة إلى عمال صناعيين، كما سلط الفيلم الضوء على المشاكل التي نجمت عن ذلك كتلوث البيئة وانتشار الأمراض.
باكورة أعمالك في الأفلام الوثائقية كانت “خان الأرماني”.. أي خصوصية حملها هذا الفيلم؟
صُوّر هذا الفيلم عام 1973، ونال إعجاباً كبيراً لم ينله فيلم وثائقي حتى الآن، ولم أتصور أنّ ناقداً في الوطن العربي لم يكتب عنه في فترة السبعينيات. ومن خلال “خان الأرماني” سلطتُ الضوء على أطفال بين الثامنة حتى الرابعة عشرة من عمرهم، يعيشون في الشوارع بعد أن ألقى بهم أهلهم خارج بيوتهم، ولم تتلقفهم الأجهزة المختصة في الوقت المناسب، فانطلقوا في الحياة بلا تربية ولا توجيه من أم، أو أب، أو معلم، ليواجهوا المغامرة، وقد تحولوا إلى سارقين ومشوهين وشاذين وقتلة، وكانوا يجدون في “خان الأرماني” ملجأ يعيشون فيه، وبعضهم يفضل النوم في العراء تحت سقيف الدكان في طرف شارع، أو بجانب أحد المطاعم.. في هذا الفيلم، تحدث هؤلاء الأطفال عن الخلافات العائلية التي أصابت بيوتهم، وكيف ألقت بهم إلى الطريق. والقاسم المشترك بين جميع هؤلاء الأطفال هو الفقر، أساس المشكلة؛ وقد تحدثوا باستفاضة عن الحرمان والتشرد اللذين يعانون منهما، واعترفوا أنهم مارسوا كل الموبقات وهم على هامش المجتمع، وقد تابعت كاميرتي هؤلاء في الأسواق والشوارع، المناخ الخصب لما يقومون به من سرقات.
ما مفهومك الشخصي للسينما التسجيلية؟ وما هي الأهداف التي كنت تريد تحقيقها من تلك الافلام التي أنجزتَها؟
للسينما التسجيلية أسس ومفاهيم راسخة وواضحة، ولا تعني بالنسبة لي غير ما تعنيه لكل من اهتمّ بهذا المجال. وباختصار، السينما التسجيلية هي التي تنبع من الواقع وتتحرك في إطاره، وهي عين واعية تملك القدرة على إعادة بناء حياتنا على الشاشة بتكبير التفاصيل دون زيف؛ وهذا ما يساهم في خلق إرادة التغيير لدى الفرد؛ وكنتُ كسينمائي أرغب في صنع أفلام تسجيلية جادّة للواقع الذي نعيشُ فيه، ونتفاعل معه.. أفلام تستطيع أن تخاطب العقل المتحضر وتبين للعالم، دون مواربة، كيف نعيش، وكيف نُفكّر، وكيف نحاول التخلص من رواسب التخلف، ونسعى لبناء المجتمع الذي نطمح إليه؛ وأرى أن هذه السينما تستمد قوتها وقوة تأثيرها واجتذابها من ارتباطها بهذا الواقع، فكلما زاد هذا الارتباط كانت أكثر فاعلية وإيجابية، وكلما ضَعِف هذا الارتباط عجزت عن القيام بمهامها ومسؤولياتها؛ وهذا ينطبق على السينما التسجيلية السورية في مراحلها المتعددة، فقد مرت فترات كانت تنظر فيها إلى الواقع الذي نعيش فيه وجهاً لوجه، وهذا ما أدى إلى انتعاشها، فقدمت أفلاماً تسجيلية جيدة، وكانت وما زالت محطاً للاهتمام والتقدير داخل وخارج الوطن العربي.
متى تفقد السينما التسجيلية مصداقيتها وتبدأ بالتراجع؟
تتراجع عندما تفقد صلتَها بالواقع وتحول اهتمامها من الكيف إلى الكمّ، وهذا ما لمسناه بعد المرحلة الذهبية للسينما، فقد تحول أغلب إنتاج السينما التسجيلية إلى مجرد أشرطة إخبارية أرشيفية، أو لقطات سياحية، أو مواضيع ساذجة مكررة تجترّها تحت عناوين مختلفة. السينما التسجيلية الحقيقية كانت وما زالت تشد الناس إليها، والجماهير العريضة تحب أن ترى نفسها فيما تشاهده على الشاشة، وإذا ألقينا نظرة على واقع السينما في بعض الدول المتقدمة، أو النامية، فإننا نجد أن معظم السينمائيين بدأوا يقتربون أكثر فأكثر من السينما التسجيلية، حتى أنهم أخذوا يستخدمونها على نطاق أوسع في مجالات السينما الروائية؛ والدافع إلى ذلك هو القناعة بأن العمل التسجيلي يستقطب الناس لأنه الأكثر قدرة على التفاعل معهم .
بعد مشاركتك بفيلم “رجال تحت الشمس” توقفت عن إنجاز أفلام روائية.. ما هي الأسباب؟
بعد فترة السبعينيات، والذروة التي شهدتها، أصيبت السينما بالهدوء، وقد يكون السبب المخرجون أنفسهم، وقد يكون السبب الإدارة أو الجو العام الذي ساد فيما بعد؛ وبعد فيلمي “اللقاء”، والنجاح الكبير الذي حققه، تقدّمتُ للمؤسسة العامة للسينما بالعديد من السيناريوهات لأفلام روائية، وكانت الردود دائماً من قِبل الإدارة في تلك الفترة “التريث”؛ ولا أنكر أن ذلك جعلني في بعض الأحيان أهربُ كثيراً إلى تقديم أفلام لا تضر ولا تنفع.
أنجزت بعض الافلام التراثية والتاريخية.. هل كنت راضياً عنها؟
لا أريد الدفاع عن نفسي، ولكن أي متابع للسينما السورية يعرف أنني أنجزتُ مجموعة من الأفلام الوثائقية بعد فترة السبعينيات، ومُنِع عرضها لسبب ما، ولم ترَ النور إطلاقاً، رغم كل ما كُتِب من إيجابيات حولها؛ وقد طُلِبَت إلى أكثر من مهرجان سينمائي دولي، وأُهمِل هذا الطلب حينها، وكان لا بد لي أمام التزاماتي الوظيفية في المؤسسة أن أعمل أي شيء، فلجأتُ إلى الهروب من معالجة الواقع إلى تقديم أفلام تراثية أو تاريخية قد لا تنفع كثيراً، ولكنها على الأقل لا تقع في مطب “القبول” لدى أنصاف العقول. والحقيقة – برأيي – شيء متكامل، لا يمكن أن نتخلى عن قسم منه، دون أن يتسرب الزيف إلى القسم الآخر.
توقفتَ عن العمل السينمائي منذ سنوات طويلة واتجهتَ إلى الإعلان وأصبحت رائداً من روّاده..!!
لم تكن لديّ رغبة في التوجه إلى الإعلان بعد مسيرة في مجال السينما، إلا أن الظروف التي كانت قائمة حالت دون تنفيذ ما كنتً أطمح إليه سينمائياً، ما جعلني أتوجه إلى الإعلان؛ ولا أرى تبايناً كبيراً بين المجالين، فكلاهما شكل من أشكال الخلق والإبداع الفني والفكري، والإعلان يتطلب خبرة وعلماً ومعرفة الأساليب النفسية اللازمة للتأثير على سيكولوجية المستهلك وتحريضه على شراء السلعة، وذلك بتوظيف كل القدرات الفكرية والجمالية والفنية ليكون معبّراً ومشوقاً ومقنعاً ضمن مدة قد لا تتجاوز الثواني المعدودة؛ ومن المؤسف أن العمل في هذا المجال، كغيره من المجالات الأخرى، أصابه الضرر بسبب الحرب، وهو اليوم يعاني ما يعانيه من مشاكل كثيرة .
شهدت الإعلانات التلفزيونية في منتصف التسعينيات نقلة نوعية في الشكل والمضمون.. أية أسباب وراء ذلك؟
السبب هو المتغيرات المتسارعة التي عاشها عالمنا بأوضاعه الاجتماعية والاقتصادية، وبعد أن أصبح من المسلّمات ما للإعلان من دور في تحريك عجلة الاقتصاد وتأثيره في سلوك ووجدان كلّ مجتمع؛ لذلك، كان لا بد للإعلان السوري في تلك الفترة من خطوات حتمية في طريق التطور والتجديد، ليتماشى وروح العصر، ويتمكن من القيام بما هو مُنتظر منه في ظل نهج التطوير والتحديث، إلى جانب عوامل عديدة أهمها تكنولوجيا الاتصالات الحديثة التي حطّمت الحدود وأزالت الحواجز وسمحت بالاطّلاع والتفاعل مع تجارب الآخرين مما حرّض على مواكبة أي تطور.
يذكر أن مروان المؤذن درس آداب اللغة الالمانية في جامعة برلين، وكذلك الإخراج السينمائي والتلفزيوني، كما درس السيناريو وعلوم الدراما في أكاديمية فيينا، وكان نائب نقيب الفنانين سابقاً، ومدير الشؤون الفنية لدى المؤسسة العامة للسينما.
