مجلة البعث الأسبوعية

لم يكن بينيت أو ليبرمان قادرين على خلع “ملك إسرائيل”.. لكن الفلسطينيين تمكنوا من ذلك!!  

“البعث الأسبوعية” ــ ترجمة: سمر سامي السمارة

بتوليه منصب رئاسة الوزراء في إسرائيل مدة 15 عاماً، تجاوز نتنياهو فترة تولي رئيس وزراء الكيان الصهيوني، “الأب المؤسس”، ديفيد بن غوريون، والتي استمرت 12 عاماً. يبدو أن الإجابة على هذا السؤال ستكون حاسمة بالنسبة للقادة الإسرائيليين المستقبليين الذين يأملون في محاكاة إرث نتنياهو.

لا يمكن الحكم على “إنجازات” نتنياهو بالنسبة لإسرائيل، وفقاً للمعايير نفسها التي اتخذت في فترة تولي بن غوريون، فعلى الرغم من أن كلاهما كانا من الإيديولوجيين الصهاينة المخلصين، والسياسيين الأذكياء، فإن نتنياهو، على عكس بن غوريون، لم يقد ما يسميه الصهاينة “حرب الاستقلال”، أي اغتصاب فلسطين التاريخية، لكنه قام بدمج العصابات الإرهابية في جيش، وحبك “سردية قومية” ساعدت إسرائيل على تبرير جرائمها الكثيرة بحق الفلسطينيين، سكان الأرض الأصليين.

التفسير المبتذل لنجاح نتنياهو في السياسة هو أنه محتال، وثعلب، أو، في أفضل الأحوال، سياسي انتهازي. ومع ذلك، هناك ما هو أكثر من مجرد اقتباس لنتنياهو، فعلى عكس سياسيي اليمين الآخرين في جميع أنحاء العالم، لم يستغل نتنياهو أو يمتطي موجة حركة شعبوية قائمة، بل كان، عوضاً عن ذلك، المهندس الرئيسي للنسخة الحالية لسياسة اليمين الإسرائيلي.

وإذا كان بن غوريون “الأب المؤسس” لإسرائيل، عام 1948، فإن نتنياهو هو الأب المؤسس لإسرائيل الجديدة، في عام 1996، وبينما استخدم بن غوريون وأتباعه التطهير العرقي والاستعمار وبناء المستوطنات غير القانونية لأسباب إستراتيجية وعسكرية، فإن نتنياهو يستمر بإتباع الممارسات ذاتها، لكن بسردية مختلفة كلياً.

فبالنسبة لنتنياهو، كانت النسخة التوراتية من إسرائيل أكثر إقناعاً من الإيديولوجية الصهيونية “العلمانية” التي كانت تُستعمل في الماضي؛ ومن خلال تغيير السردية، تمكن نتنياهو من إعادة تقييم الدعم لإسرائيل في جميع أنحاء العالم، واستقطاب المتعصبين المتدينين اليمينيين، والأحزاب الشوفينية، والمعادية للإسلام، واليمين المتطرف، والأحزاب القومية المتطرفة في الولايات المتحدة وأماكن أخرى.

لم يكن نجاح نتنياهو في إعادة تسويق “المغزى” الكبير لفكرة إسرائيل في أذهان مؤيديها التقليديين، مجرد إستراتيجية سياسية، فقد نجح أيضاً في تحويل ميزان القوى في إسرائيل من خلال جعل المتطرفين اليهود والمستوطنين في الأراضي الفلسطينية المحتلة دائرته الأساسية، وفيما بعد أعاد تشكيل السياسة الإسرائيلية المحافظة بشكل جذري. كما قام بتدريب جيل كامل من السياسيين الإسرائيليين اليمينيين، واليمينيين المتطرفين والقوميين المتطرفين، ما أدى إلى ظهور شخصيات صعبة المراس، مثل وزير الحرب السابق، وزعيم حزب “إسرائيل بيتنا”، أفيغدور ليبرمان، ووزيرة العدل السابقة أييليت شاكيد، و وزير الحرب السابق، وبديل نتنياهو،  نفتالي بينيت.

في الواقع، نشأ جيل جديد من الإسرائيليين الذين كانوا يشاهدون نتنياهو يقتاد معسكر اليمين من نجاح إلى آخر، وكان بالنسبة لهم المنقذ. فحشدت مسيراته المفعمة بالكراهية وخطابه المناهض للسلام، في منتصف التسعينيات، المتطرفين اليهود، حتى أن متطرفاً يهودياً، يدعى إيغال عامير، أقدم على قتل رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إسحاق رابين الذي بدأ العمل مع القيادة الفلسطينية من خلال “عمليةال سلام”، وفي النهاية وقع اتفاقيات أوسلو.

عند وفاة رابين، في تشرين الثاني 1995، دُمّر “اليسار” السياسي الإسرائيلي بفعل الشعبوية اليمينية التي دافع عنها زعيمها الجديد نتنياهو، والذي أصبح بعد بضعة أشهر فقط أصغر رئيس وزراء في إسرائيل.

وعلى الرغم من أنه يتم تحديد السياسة الإسرائيلية، تاريخياً، من خلال ديناميكياتها المتغيرة باستمرار، إلا أن نتنياهو ساعد اليمين على إطالة أمد هيمنته، متغلباً تماماً على حزب العمل الذي كان مهيمناً في يوم من الأيام؛ ولهذا السبب، تفضل احزاب اليمين نتنياهو، ففي ظل حكمه توسعت المستعمرات اليهودية بشكل غير مسبوق، وأصبح أي احتمال – مهما كان ضئيلاً – لحل على أساس “دولتين” بحكم المستحيل، وربما للأبد!! بالإضافة إلى ذلك، غيّر نتنياهو العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل التي أصبحت تتمتع بنفوذ كبير على الكونغرس الأمريكي والبيت الأبيض.

باءت كل محاولات النخب السياسية في إسرائيل لطرد نتنياهو من السلطة بالفشل، إذ لم يكن هناك تحالف قوي بما فيه الكفاية، ولم تكن نتيجة الانتخابات حاسمة بما يكفي، كما لم يكن أحد قادراً بما يكفي لإقناع “المجتمع الإسرائيلي” أن باستطاعته أن يقدم لهم أكثر مما قدم نتنياهو؛ وحتى عندما حاول جدعون ساعر، الذي شغل منصب وزير التعليم، وبعدها وزير الداخلية، في حكومات نتيناهو، وكان عضواً في حزب الليكود، القيام بانقلاب ضد نتنياهو، خسر التصويت ودعم الليكوديين، ليتم نبذه بالكامل فيما بعد.

أسس ساعر لاحقاً حزبه “أمل جديد”، واستمر في المحاولة اليائسة للإطاحة بنتنياهو الذي يبدو أنه لا يقهر، فقد فشلت أربع انتخابات عامة، خلال فترة لم تتجاوز العامين، في طرد نتنياهو، كما فشلت كل معادلة رياضية محتملة لتوحيد الائتلافات المختلفة التي تسعى لهزيمة نتنياهو. وفي كل مرة، كان نتنياهو يعود بمزيد من التصميم للتشبث بمنصبه، متحدياً منافسيه من داخل حزبه، وكذلك أعداءه من الخارج. وحتى نظام المحاكم في إسرائيل، الذي يحاكم نتنياهو بتهمة الفساد والرشوة والاحتيال وخيانة الأمانة في ثلاث قضايا منفصلة، لم يكن قوياً بما يكفي لإجبار نتنياهو على الاستقالة.

حتى شهر أيار الماضي، كان الفلسطينيون مهمشين، فلم يكن لهم صلة بهذه المداولة على الإطلاق، وبدا الفلسطينيون الذين يعيشون في ظل الاحتلال العسكري الإسرائيلي كما لو أنه تم إخضاعهم، بسبب العنف الإسرائيلي؛ وكان الفلسطينيون في غزة، الذين يقامون الاحتلال بكل صمود، يكافحون حصاراً إسرائيلياً استمر 15 عاماً؛ لذا بدت “المجتمعات” الفلسطينية داخل إسرائيل غريبة عن أي محادثة سياسية تتعلق بنضال وتطلعات الشعب الفلسطيني.

تبددت كل هذه الأوهام عندما انتفضت غزة تضامناً مع مجتمع فلسطيني صغير في الشيخ جراح، في القدس الشرقية المحتلة، ففجرت مقاومتهم سيلاً من الأحداث التي وحدت – في غضون أيام – جميع الفلسطينيين في كل مكان، واستطاعت الثورة الشعبية الفلسطينية تحويل الخطاب لصالح الفلسطينيين وضد الاحتلال الإسرائيلي.

كتبت صحيفة “فاينانشيال تايمز” التي صورت أهمية تلك اللحظة: “فاجأت شراسة الغضب الفلسطيني إسرائيل”. ونتنياهو، الذي أطلق العنان لحماقة المتطرفين ضد الفلسطينيين في كل مكان، كما فعل حين أطلق العنان لـلقوات الاسرائيلية على سكان غزة المحاصرة، وجد نفسه في وضع غير مسبوق.

لم يستغرق الأمر سوى 11 يوماً من الحرب لتحطيم شعور إسرائيل بـ “الأمن”، وفضح ديمقراطيتها الزائفة، وفضح صورتها حول العالم.

أصبح نتنياهو الذي  لم يكن بالإمكان المساس به في إسرائيل موضع سخرية السياسة الإسرائيلية، ووصف سياسيون إسرائيليون قياديون سلوكه في غزة بأنه “مرتبك”، وينم عن هزيمة واستسلام.

كافح نتنياهو لاستعادة صورته، لكن الوقت كان قد فات. حقيقة، لم يكن بينيت أو ليبرمان قادرين على خلع “ملك إسرائيل” أخيراً.. لكن الفلسطينيين فعلوا.