سعدي يوسف.. حبر الغياب الأخير
أحمد علي هلال
لعلّ الفقد تلك الثيمة تأخذنا إلى أسئلة الموت والغياب والحضور.. لكنها أسئلة ليست مكتفية، بمعنى أن شرطها لازم وغير كافٍ، ولاسيما إن تعلق بشاعر ومبدع ومن قبل ومن بعد بإنسان أبعد من تصنيفه وتأطيره في سياقات فكرية وأيديولوجية بعينها، وعلى ذلك نتخطى أسئلة الفقد قليلاً لنرى ذلك الإرث الكبير والعميق بآن، فما تركه الشاعر العربي سعدي يوسف، داخل سياق ثقافي عُني بتشكيل الأفكار بل أكثر من ذلك بإنجاز مثاقفة ينبغي دراسته في حيزه وانفتاح أزمنته. وعلى سبيل المثال كيف قدّم سعدي يوسف الشاعر الأميركي “والت وايتمان“ إلى قراء العربية “أوراق العشب“؟!، ليصدر في سلسلة “المئة كتاب“ عن هيئة قصور الثقافة بمصر، وعلينا أن ننتبه هنا إلى أن وايتمان، وعلى حدّ تعبير سعدي يوسف، قدّم أول قصيدة نثر شغلت الناس وملأت الدنيا بإشكاليتها المثيرة، انطلاقاً مما اعتبره يوسف “أهمية وايتمان للقارئ العربي وللشعر العربي”، أي على حدّ قوله: “هو شاعر أمة في دور نهوض، مما يقدم لشعرنا المتطلع إلى أن يكون المعبر عن نهوضنا إنموذجاً عالمياً”، لكن الأدل على ما انطوت عليه إشارة سعدي يوسف أن وايتمان “شاعر ثورة شعرية امتدت إلى اوروبا وأتت أُكلها، فقصيدة النثر ما كان لها أن تشق سبيلها الأوروبي لولا إسهامات وايتمان الكبرى، وأخيراً بوصفه شاعر المحسوس والواقع المعيش”.
ومن قرأ ذلك الديوان آنذاك سيذهب إلى عوالم وايتمان “صور حياة، سائقي العربات، والبحارة، والنجارين، والجنود”، وبالمقابل “كيف صور الحرب الأهلية الأمريكية وعبّر عن المجازر البشرية التي ارتُكبت في هذه المعارك”.
إن أهمية الترجمة بمعنى المثاقفة الواعية باتت حقيقة واقعة، إذ تنقل الثقافة إلى الثقافة بمعنى أنها تنقل سياقاً لا يكتفي بإعلان قصيدة النثر وصخبها إلى الفضاء الثقافي العربي، بقدر ما يذهب بنا إلى شخصية الشاعر المترجم حينما التقت ذائقته بذائقة شاعر آخر، وبهذا المعنى أيضاً فإن سعدي يوسف الذي شُغل بالشعر طيلة عقود كبيرة ماهية وخطاباً وإنتاجاً، بل بالإبداع عموماً، هو ذلك المتعدّد الثقافي الذي تنطوي فيه أكوان ثقافية ليحوز تعبير الثقافة، وما يميّزها من اشتغال على فكر الشعر أكثر من الانشغال بأقفيته وضروراته وبلاغته الخارجية.
أحسنت،وأجدت ،ستبقى القيمة الكبرى في نتاج سعدي يوسف الشاعر والمثقف الكبير في ما قدمه من طيف ثقافي غزير ؛لعل في أبرزه ترجماته لوايتمان وريتسوس وغيرهما من كبار شعراء الإنسانية،وما تمخضت هذهِ الترجمات عن دور كبير في مثاقفة عميقة مع الثقافة الأدبية العربية.لسعدي يوسف الخلود…ولسوريا الصمود كل التحايا،ولشخصكم الكريم عظيم التجلّة والتقدير.