جنايات الترجمة على العربية بين التنظير وغياب الفعل
تناول الكثير من الدارسين والمهتمين اللغويين تأثير الترجمة على اللغة الأم التي تغدو عرضة للكثير من المفردات والمصطلحات الدخيلة التي تؤثر في بنيتها العامة ومكانتها وقوتها بين اللغات الاخرى الحية، لكن حتى الآن لم يتم اتخاذ أية تدابير وإجراءات ملموسة على مستوى المؤسسات المعنية بتنظيم عملية الترجمة والإشراف عليها ووضعها ضمن حدود المراقبة والمتابعة، تحسبا لأي تراكمات تسيء الى اللغة الأم وتؤثر فيها.
ورغم أن التأثير والتأثر في عملية الترجمة يرتبط بمكانة اللغة والمكانة العلمية والاقتصادية للشعب الذي تنتمي إليه، إلا أن تدخل المؤسسات ضروري لتنظيم عملية الترجمة وتخطي مرحلة تشخيص العلل إلى مرحلة العمل على الوقاية والعلاج، فلا يكفي أن نشبع الإشكالية تحليلاً وتشخيصاً على المنابر الاعلامية والأكاديمية المتعددة، كما هو حال الترجمة الى اللغة العربية، بل يجب أن نتخطى القول الى الفعل.
والمحاضرة التي قدمها اتحاد الكتاب العرب في حمص تحت عنوان “جنايات الترجمة على اللغة العربية” للمترجم حسين سنبلي تأتي ضمن قائمة التكرار واستكمالاً لما بدأ به الكثيرون من تنظير وتشخيص لعلة وإشكالية الترجمة المستباحة أمام كل من يتقن لغة أجنبية، دون الأخذ بالاعتبار خصوصية الترجمة لاسيما الأدبية منها، وما تتطلبه في المترجم من مقدرة فائقة على تطويع اللغتين المترجم منها والمترجم إليها، وملامسة روحها للوصول الى نص يقارب المعنى في اللغة الأم، ويلائم خصوصية المنحول إليها قيمة وبلاغة.
تشخيص الاستاذ سنبلي لجنايات الترجمة على اللغة العربية يبدأ من تأثير الكتّاب المحدثين الذين أكثروا من قراءة كتب أجنبية مع رصيد متواضع من العربية، أو تلقوا تعليمهم باللغات الأجنبية فصاروا إذا تكلموا وكتبوا يشعرونك بأنهم يترجمون عن اللغة التي تأثروا بها، وأما المجيدون من الكتّاب فقد انتفعوا من هذا ونفعوا فطعموا العربية بتعابير طريفة بارعة أحسنوا تعريبها وصياغتها.
ويعود سنبلي في تشخيصه جنايات الترجمة إلى العهد العباسي حيث أصاب العربية تغيير كبير في الألفاظ بما نقل إليها من علوم دخيلة، وما استلزمه التوسع في العلوم من مصطلحات علمية وفلسفية وإدارية أعجمية، ولتقتصر تلك النهضة على اقتباس الألفاظ الاعجمية، لكنها أحدثت تنويعا في الألفاظ العربية. ومن أبرز جوانب التأثير الذي احدثته تلك الألفاظ استخدام فعل الكون بكثرة على نحو ما يستعمله أهل اللغات الإفرنجية، والجمل الاعتراضية الشائعة عندهم، والإكثار من استعمال الفعل المجهول، وإدخال الألف والنون قبل ياء المتكلم في بعض الصفات كقولهم روحاني، وعقلاني، فما هو مألوف في اللغات الآرية قد لا يستحسن في اللسان العربي، وهذا أمر لانزال نرى آثاره في الكتابة العربية الحديثة.
وهناك بعض المترجمين من أصحاب الركاكة في الأسلوب ما يزالون يستعملون المبني للمجهول حيث لا يجب أنيستعمل مثال “وجدت جثة رجل ملقاة في الشارع من قبل الشرطة“، فهذه ترجمة حرفية يجهل مترجمها أن المبني للمجهول في الانكليزية من أساليب البلاغة في الكتابة، أما في العربية فلا يستخدم إلا إذا كان الثاني مجهولاً، وكذلك بالنسبة للجملة المعترضة التي هي من سمات الضعف في العربية ومن سمات البلاغة في الانجليزية.
والمتأمل في ماضي لغتنا العربية وحاضرها فيما يتعلق بقوانين نظم الجمل والعبارات وهندستها يجد أن سمات الجملة في الحقبة الحديثة أطول من القديمة، وأنها حافلة بالجمل الاعتراضية، وقد يكون هذا سببه ضعف المترجمين في العربية وجهلهم بأساليب بلاغتها. كما يكثر المترجمون من استعمال حروف الجر، والعطف وأسماء الإشارة والتوكيد في غير موضعها استعمالاً خاطئاً يخالف الاستعمال القديم، بل وتمتلئ أساليبنا الآن بعبارات ليست إلا ترجمة لأساليب خالصة لا تعرف العربية مثيلاً لها، مثل عبارة “هذا وصرح مصدر مسؤول..”، حيث يأتي اسم الإشارة في بداية الكلام لا يضيف أي معنى مهما.
ويرى سنبلي أن المعاجم كانت سبباً اخر لشيوع الخطأ، فالمترجم عندما يبحث عن معنى لكلمة في معجم يأخذ المعنى الذي يذكره المعجم دون تروّ، لاسيما وأن كل الجهود في وضع المعاجم إلى العربية فردية تقتصر على مخزون الفرد اللغوي في وضع اللفظ المقابل للكلمة، وهذا يتطلب جهود مؤسسات علمية وادبية أو مجمّعات لغوية.
حسين سنبلي من مواليد حمص عام ١٩٧١، من أبرز كتبه في فن الترجمة: “السجالات والمعارك الأدبية في اللغةوالترجمة“، و“الأخطاء الشائعة في الترجمة“، و“فن الترجمة التطبيقي“، و“قمم في الترجمة“.كما صدر له قاموس“الواضح” انجليزي عربي، وقاموس الإرشاد للمصطلحات والتعابير الاصطلاحية الانجليزية، وكتاب في قواعد اللغة الإنجليزية من حوالي 500 صفحة، إلى جانب ترجمة قصص عالمية من روائع الادب العالمي.
آصف ابراهيم