سعدي يوسف
حسن حميد
كلما ولد شاعر حقيقي أضع يدي على قلبي خوفاً، لأن الدروب التي يشقّها الشعراء ملأى بالحفائر، والكمائن، والأفخاخ، وحياتهم متعدّدة الجهات، أو قلْ كثيرة الجهات، والعسل لديهم بألف طعم وطعم، والمرُّ لديهم بألف طعم وطعم. وكلما رحل شاعر حقيقي أضع يدي على قلبي خوفاً أيضاً، لأن ما سيقال بحقه كثير وعجيب ومتعدّد ومتناقض إلى حدّ الذهول والبهوت.
واليوم أضع يدي على قلبي بعد رحيل شاعر حقيقي هو سعدي يوسف (1934 – 2021) لأن ما أعرفه عنه شيء، وما يقوله الآخرون عنه شيء آخر، ولأن الاختلاف بين رأي وآخر يصل إلى حدّ شيطنة الشاعر وبالشواهد، وإلى حدّ النظر إليه بوصفه كائناً من جنس الملائكة وبالشواهد أيضاً. والحق أن موضع الشاعر سعدي يوسف هو بين هذين الحدين، فهو ليس بشيطان رجيم، ولا بملك طاهر، بل لا يجوز وصف الكائن البشري بأحد الوصفين لأنهما قائمان على المبالغة. المتفق عليه أنه شاعر، وشاعر مهمّ يكاد يكون أحد أعمدة شعراء قصيدة النثر، وأحد أعمدة الشعر العربي أيضاً، وهو مثقف يساري ناشط، دؤوب في الكتابة واجتراح الآراء والمواقف، ترك العراق في عقد السبعينيات لأسبابه الخاصة التي شرحها بأن حياته كانت في خطر، وأنه كان مطارداً ويعيش مثل خفاش ليلي في بيوت الأصدقاء، وأنه سمع تحذيراً من أحد أصدقائه طالبه بأن يترك العراق لينجو بروحه. ومما لا خلاف عليه إطلاقاً أن سعدي يوسف شاعر ومثقف من طينة الكبار، ولكنه في مواقفه وآرائه ينحدر إلى القاع أحياناً لأن ما يطلقه من الآراء، وما يقفه من المواقف فيه الكثير من التهور والارتباك والانفعال، وكل هذا لا يليق بشاعر كبير، ومثقف واسع المعرفة لأن ما سيقوله يؤثر في الرأي العام. وإذا ما تخطيت تجربته الشعرية، ومؤلفاته النثرية، وترجماته التي هي على غاية من الأهمية لأنها كتبت بحذق متناهٍ، وبساطة جارحة، وروح فنية قد لا تجد لها مثيلاً في تجارب إبداعية أخرى، مع أن قصصه أقل شأناً من قصائده وترجماته، قلت إذا ما تخطيت كتاباته، ووقفت عند آرائه وما أطلقه من أحكام تجاها الأفراد، والمجتمعات، والسياسات، والقضايا، فإنني واجد تناقضات لا يمكن تفسيرها إلا عندما نحيلها أو نعلقها بتعلات المزاج والانفعال، أو نشدها إلى طقوس الجلسات مع الأصدقاء وما يتخللها من طعام وشراب وقذف لكلام غير محسوب بدقة.
يروي أصدقاء سعدي يوسف أنه التقى الشاعر البياتي في مقهى، حين كان الاثنان في دمشق، وأنه اعتذر للبياتي عن كل ما قاله في حقه يوم كان الأخير مستشاراً ثقافياً لسفارة بلاده العراق في إسبانيا، وأنه ارتمى على يده مقبلاً، وقبل البياتي الاعتذار، لكن بعد موت البياتي شنّ سعدي يوسف هجوماً عنيفاً على البياتي، وقد كان الأمر مفاجأة للذين كانوا مع الاثنين حين قبّل سعدي يوسف يد البياتي معتذراً، ومفاجأة جاءت بعد موت الأخير، فقيل إن الأمر أشبه بالطعن في جثة هامدة. ومثل هذا موقفه من بعض السياسات العربية التي وصفها بأقذع الصفات، ثم وبعد مرحلة وصفها بأحسن الصفات. لكن ألم تكن لسعدي يوسف مواقف ثابتة لم يخترقها الانفعال، ولم يعصف بها المزاج الحاد، ولم تفسدها جلسات الطعام والشراب؟ بلى كانت له مثل هذه المواقف الثابتة، ومنها إيمانه بالنظام الاشتراكي كفلسفة ورؤيا ومنهج وحلم، فهو لم يبدّل قناعته هذه حين تفكك الاتحاد السوفييتي في أوائل عقد التسعينيات، ونادى بأنه (الشيوعي الأخير)، وموقفه تجاه القضية الفلسطينية كان ثابتاً وراسخاً أيضاً، ورأيه أن ما حدث في سورية خلال السنوات العشر الداميات الفارطة كان مؤامرة خطّطت لها دول كبيرة لتدمير وجوه الحياة في سورية.
لكل هذا، أسأل: هل حياة الشعر والشاعر هي القصائد فقط؟ أم أنها هي قصائده وآراؤه ومواقفه؟! أسأل أيضاً: لماذا يفسد الشاعر نظرة الآخرين إلى شعره بسبب مواقفه المضطربة والمتناقضة معاً، أيعني هذا أن البط يحب العوم ولو في المستنقعات الضحلة؟!
Hasanhamid55@yahoo.com