النّمذَجة السّلبيّة
عبد الكريم النّاعم
لكلّ مرحلة من مراحل ما تتعرّض له الشعوب، في مسار مواجهاتها، أنموذجُها الذي ترتسم ملامحه في عقول النّاس، وفي سلوكهم؛ وذلك هو منطق الأحداث في مرتسماتها النفسيّة والاجتماعيّة، وفي هذا المَظهَر تكمن بذور ما سيكون عليه شكل النّاتج الاجتماعي، وهذا قد يشكّل لفترة ما حالة إحباط في الوجدان الجمعي الطّامحة أبداً إلى ما هو أفضل.
في حرب تشرين، 1973، ارتفعت الروح المعنويّة لدرجة أنّ الناس في دمشق كانوا يصعدون إلى سطوح البنايات ليُشاهدوا تساقط الطيران الإسرائيلي، وكان الطيّارون السوريون، رغم الفارق الكبير بين طائراتهم وطائرات العدوّ، من حيث التقنية والتسليح، يتسابقون لملاقاة الطيران الإسرائيلي، ويُسقطونه.
في جبهة الجنوب اللبناني قبل تحريره كاملاً، تقاطر الفدائيّون الأشاوس لقيادة سيارات مفخّخة يقتحمون بها مواقع العدو، حتى أجبروه على الهزيمة في ليلة شديدة الظلام، وهنا لابدّ من الإشارة إلى أن مفهوم الشهادة في ثقافتنا العامّة يلعب دوره، والمُلخَّصة بأنّهم “أحياء عند ربّهم يُرزَقون”.
في الأرض المحتلّة في فلسطين ثمّة نماذج تحتاج لتوثيق يُفترَض فيه أن يبقى للأجيال القادمة لا في فلسطين وحدها بل ليشمل ذلك أقطار هذا الوطن، فها نحن ما يكاد يمرّ يوم إلاّ وتنقل الأخبار حادثة طعن، أو دهس العدو بسيارة، وكلا الطّاعن والدّاهس يعلم أنّ مصيره الموت، أو الاعتقال والتعذيب، ورغم ذلك فإنّه يُقدم، مع إدراكه أنّ ثمّة مَن يقف ضدّه في السلطة الفلسطينيّة، فيتخطّى كل هذه الحواجز لتبقى شُعلة النّضال ساطعة واعدة.
مُقابل هذا، فإنّ أزمنة إشعال الحرائق داخل الوطن، كما جرى في سوريّة والعراق، تفرز نماذجها السّلبيّة البالغة الرداءة، في الوقت الذي يقف فيه المقاتلون ضدّ أعداء الداخل والخارج، ومع ذلك قثمّة نماذج رديئة، تبرز بقوّة، وهذا من طبيعة تلك الأزمنة المشحونة بالشعارات المرتدّة إلى ما دون تشكيلة الدولة، فهذا الذي لم يكن يحصّل قوت يومه له ولعياله إلاّ بشقّ النفس وقد تبدّلت به الحال، فهو يركب سيارة حديثة، ويشتري العديد من العقارات، ويُصبح من وجهاء المال، وتُفتَح له الأبواب، ويُصبح، بطريقة خطيرة، أنموذجاً لدى هذا أو ذاك، ويحلم البعض بأن يكونوا مثله، وربّما أشاد بما هو عليه الآباء على مسمع من أبنائهم، فيرسمون، من حيث لا يعون، صورة ذلك الأنموذج، والذي شعاره، ومبدؤه أن يصل إلى مبتغاه، وبذلك يتمّ تغييب، بل دفن، النّماذج الوضيئة، وهذا خطر بالغ في التربية المجتمعيّة، ولغم لا نعرف كيف ينفجر.
إنّ كلّ النصائح الأخلاقيّة التي تتضمّنها كتب التربية والتعليم تبدو مهزومة أمام مثل هذا الأنموذج، لأنّ ما يقرأه الأبناء، أو يتعلّمونه في المدرسة، هو للحفظ من أجل دخول الامتحان المدرسيّ، أمّا ذلك الذي أشرنا إليه فهو ماثل بنفوذه، وماله، وحضوره الذي يُلغي أيّ حضور آخر، وفي ذلك من الخطر ما فيه.
إنّ ما سبق يضع على عاتق الدولة ومؤسّسات المجتمع أن تضع خطّة مدروسة للخروج من هذه المنطقة العاتمة الضّالة، وأن يكون إعمار البلد مترافقاً مع إعمار النفوس، وإعادة التوازن الاجتماعي الذي تخلخل كثيراً بعد عشريّة النّار.
يتناقل النّاس أنّ أباً سأل ابنه البالغ من العمر ما يؤهّله لدخول مرحلة التعليم الأساسي: “بابا ماذا تريد أن تكون في المستقبل؟”، وكان ينتظر منه أن يقول أريد أن أكون طبيباً، أو مهندساً، أو ضابطاً في القوات المسلّحة، ولكنّ الأب ذُهل حين قال له ابنه: “أريد أن أكون حرامي”، فسأله الأب بدهشة: “لماذا حرامي؟”، فقال “لأنّني أسمعهم يقولون الحرامي عندو مصاري كتير…”!.
aaalnaem@ gmail.com