ثقافةصحيفة البعث

هايكه فيبر.. ما زلتُ أحلم بقرية أنموذجية

“مازلتُ أحلم بقرية أنموذجية”، هذا الحلم مازال هاجساً للفنانة هايكه فيبر ألمانية الجنسية المقيمة في حيّ القيمرية بدمشق، والتي أقامت مؤخراً معرض لوحات التطريز في صالة الفن المعاصر، روت فيه حكايتها مع الذاكرة البصرية والإنسانية في القرية التي لوّنتها الشمس -جبل الحص- في ريف حلب.

تميّز المعرض بالألوان المشرقة والرسومات الشعبية اللافتة المأخوذة عن الفنان تيناوي، إضافة إلى معالم الحياة الواقعية بالقرية ولاسيما قبب المنازل الترابية. وكان لحديث هايكه فيبر وقعه على الزائرين، إذ وثّق تجربتها الإنسانية والفنية مع سكان القرية والقرى المجاورة، وتوقفها في عام 2011 إثر اندلاع الحرب التي خرّبت القرى بكل ما فيها. لكن فيبر لم تستسلم ولم تتخلى عن حلمها، ومن هذا المعرض وجّهت نداء لسكان القرى الذين أجبرتهم الحرب على هجرة قراهم والعيش بالمخيمات للعودة وإصلاح القرى بالتعاون بين جهات عدة أملاً بغد أفضل. كما كشفت حقائق تؤكد أن الحفاظ على التراث السوري الذي يعدّ جزءاً من الهوية السورية أمر بأيدي السوريين فقط.

واقع القرية

استهلت فيبر حديثها بعرض فيلم توثيقي وتسجيلي أُعدّ منذ شهر، أخذت فيه دور السارد واسترجعت واقع حياة القرية “عنات” من جبل الحص التي تعاني من مناخ جافٍ ولا تنمو فيها الأشجار لقلة الأمطار وتربتها الحجرية، فتقتصر الزراعة على العدس والشعير ويبلغ عدد سكانها ربع مليون نسمة، يتوزعون على مساحة مئة وأربع وستين قرية ويعانون من شظف العيش والفقر المدقع، فالنسوة يعملن في الحقول والرجال يشتغلون في حلب بأعمال بسيطة، وبعضهم يعمل في لبنان. أما عن أبنية القرية فترابية وبعضها من الإسمنت، وتتضمّن أبسط مستلزمات الحياة، يستخدم السكان موقد الكاز، ويعتمدون على تربية الأغنام ويقتصر طعامهم على منتجات الألبان والزعتر والبرغل والعدس والخضار والحشائش، وفي المواسم تشارك النسوة بحصاد القطن وقطاف الزيتون.

انتشار الأمية

في كلّ قرية من القرى المجاورة توجد مدرسة ابتدائية، وفي المنطقة كلها توجد مدرستان إعدادية وثانوية فقط رغم أن عدد السكان قرابة مليون، لذلك أغلب الطلاب يتركون المدرسة، والأمية منتشرة بنسبة 85% للنساء و60% للرجال.

ومن البيئة الجغرافية والاجتماعية إلى فنّ التطريز، المشكلة كانت باختيار الرسومات والمواضيع، فحاولت فيبر أن تطوّر العمل باقتراح أفكار تُبنى عليها اللوحات مثل الفصول الأربعة والحيوانات، وكانت الرسومات تميل نحو التجريد فطلبت منهن رسم المياه والنار والنباتات، حيث عبّرن بلوحاتهن عن الهواء والمياه والشمس، وبعضهن امتلكن القدرة على التخيّل فتخيّلت إحداهن افتتاح المعرض وقدوم الزائرين، ثم اقترحت إقامة معرض لأجمل اللوحات في المركز الثقافي الألماني ولشدة الإعجاب بلقطة “الخياط” والتطريز بخيوط النايلون بألوان زاهية بيعت جميع اللوحات. ومن ثمن اللوحات وبمشاركة الأهالي بثلث المبلغ تمّ شراء حافلة نقل صغيرة (ميكروباص) لتقل الطلاب في القرى إلى المدرسة الإعدادية. وكان من المقرّر بناء مركز ثقافي للتوعية والتعليم وإقامة تحسينات على القرى بالبناء وفق الطريقة القديمة “القبب”، وإدخال تقنيات معاصرة مثل التدفئة “سولر”، والبداية بمشروعات لتشغيل الرجال، لكن الحرب قضت على كل شيء ابتداء من2011.

التطريز السوري والفلسطيني

بعد عرض الفيلم أشارت فيبر إلى الاختلاف ما بين الحياة بالقرية وبين اللوحات المتسمة بألوان زاهية من وحي رؤية العاملات، واسترجعت بذاكرتها  بداية العمل الذي يعود إلى مشغل التطريز في التضامن منذ التسعينيات والاهتمام بالتطريز الفلسطيني بداية كون أغلب القاطنين من الفلسطينيين، ثم إقبال السوريات وإعجابها بالتطريز السوري لنساء من إدلب والسويداء مقيمات في المنطقة. ومن هنا انبثقت فكرة ذهابها إلى القرى بالتعاون مع منظمة UNDP ثم اشتغلت بمفردها مع النساء بإنجاز بطاقات المعايدة وبيعها في حلب ومن ثم اللوحات.

حقائق وصعوبات

كما تابعت عن تشكّل الوعي عند المرأة وإحساسها بكيانها المستقل، وأثارت بعض المسائل المتعلقة بمنح القروض التي استفاد منها السكان بإصلاح المنازل وشراء المستلزمات والزواج ودفع الديون في السنتين الأولى والثانية، لتتبلور فكرة مشروع يحسّن من حياتهم في السنة الثالثة، كما أشارت إلى مشروع محو الأمية واهتمام UNDP بالبحث النظري فقط دون الاهتمام بالنتائج، وكشفت بعض الحقائق كتسريب بعض بطاقات المعايدة وبيعها في دمشق، وسحبهم الماكينات التي قدموها للعاملات، ومحاولة منعها من متابعة مشروعها التعليمي بالتطريز، ومن التواصل مع النساء، والصعوبات التي واجهتها وتعاونها مع السفارة الألمانية لاستعادة الماكينات التي قدّمتها منظمة UNDP ما يدلّ على أن الحفاظ على التراث السوري أمر بأيدي السوريين وحدهم. ثم تحدثت عن زيارتها للقرى في عام 2020، والتي أصبحت شبه فارغة من السكان باستثناء عدد قليل، والدمار الذي لحق بالقرية التي شهدت أبشع جرائم داعش.

دعم تنمية الأسرة 

لم يصدق بعض الحاضرين أن النساء اللواتي يعشن في هذه الأوضاع الصعبة وبعيداً عن التكنولوجيا أنجزن هذه اللوحات، ودارت نقاشات حول أهمية مشروعات دعم المرأة لكن بإطار تنمية الأسرة وعدم التركيز فقط على دور المرأة وتهميش الرجل، وعلى بناء قرى أنموذجية وفق الطراز القديم المتبع وأساليب معاصرة.

ورداً على سؤال “البعث” حول إغفال الفيلم مراحل عمل النسوة بالتطريز وكيفية تعليمهن، أوضحت أنه توجد صور عن مراحل العمل صوّرت في عام 2008، لكنها لم تتوافر حالياً لإضافتها إلى هذا الفيلم.

ورأى مدير الصالة موفق مخول أن المعرض يعرّف بفن التطريز في منطقة جبل الحص، وأن الأعمال تتميّز بالفطرية والمصداقية، وتدلّ على قدرة المرأة السورية على تبنيها التراث السوري في هذه المنطقة والحفاظ عليه، ونوّه بأن صالة الفن المعاصر تفتح أبوابها لكل الفنانين ولكل من يحبّ سورية.

ملده شويكاني