الانسحابات الأمريكية مجرد ادعاءات مزيفة
محمد نادر العمري
على مدى عقود من الزمن سعت الولايات المتحدة الأمريكية ضمن تحقيق أهدافها الجيو استراتيجية، وفي مقدمتها الحفاظ على بقائها في قمة النظام الدولي والتربع عليه دون منافس أو خطر يلحق بها، إلى تكريس ظاهرتين متكاملتين تشكلان قوة تأثيرها ومصالحها ومرونة في تغيير تكتيكاتها الإستراتيجية لحماية هذا الهدف الدولي.
الظاهرة الأولى، تمثلت في التمدّد العسكري ونشر القواعد على مستوى النظام الدولي وخارج الجغرافية الأمريكية، وكان الهدف من وراء ذلك السيطرة على المواقع المهمّة جغرافياً والتي من شأنها أن تتيح للولايات المتحدة الهيمنة والسيطرة على الطرق الدولية المهمّة ومصادر الطاقة وطرق مرورها ونقلها، والسيطرة على طرق التجارة الدولية هذا من جانب، ومن جانب آخر يكمن هدفها من ذلك في الهيمنة على القرار الداخلي للدول الموجودة فيها والسيطرة على محدّدات سياساتها وصنع قراراتها، أما الهدف الثالث فهو مراقبة الدول المناوئة لها عن قرب واحتواء تمدّدها ونفوذها وتغذية الحروب والصراعات المباشرة وغير مباشرة.
أما الظاهرة الثانية، فهي باتت شبه عرف داخلي أقرب لمبدأ متوارث منذ خمسينات القرن الماضي، أي في عهد الرئيس السابق أدويت إيزنهاور، ويتضمن هذا العرف عدم الانسحاب الكامل من أي دولة أو الاعتراف بالهزيمة العسكرية للحفاظ على الهيبة الأمريكية وقوتها أمام باقي دول العالم.
ولكن في عهد الرؤساء الثلاثة الأخيرين باراك أوباما، ومن ثم دونالد ترامب وصولاً للرئيس جو بايدن، بات واضحاً أن هذه الظاهرة بدأت بالتراجع أو التخلي عنها، وهو ما دفع معهد “راند” الأمريكي المقرّب من وزارة الدفاع الأمريكية في بداية ولاية بايدن وبعد تسلمه السلطة للقول في دراسة له حول “صراعات أميركا الخارجية” إن ما مارسه أوباما وترامب ومن المحتمل أن يسلكه بايدن من انسحاب من أفغانستان والشرق الأوسط، من شأنه بالدرجة الأولى أن يفقد هيبة أميركا عسكرياً، وبالدرجة الثانية أن يعطي المجال لخصمها التقليدي الاتحاد الروسي بالتوسع والتمدّد، وبالدرجة الثالثة تزيد من احتمال التعاون العسكري بين الدول بعيداً عن الموافقة الأمريكية وضد مصالحها، في إشارة إلى محور المقاومة على سبيل المثال لا الحصر.
هذا القلق لا ينحصر فقط في المجال العسكري، بل امتد لنخب الحزبين الديمقراطي والجمهوري، فلم يعد خافياً اليوم مسعى إدارة بايدن لتوجيه كل اهتمامها لمقارعة التنين الصيني عبر محاولة دقّ إسفين الخلاف بين الأخير وروسيا، وتعزيز الوجود العسكري الأمريكي في جنوب شرق آسيا والبحر الهندي، واللجوء لإدارة الحرب الناعمة عبر دعم الحركات الانفصالية داخل الصين، والضغط عليها بذريعة انتهاك حقوق الإنسان والحريات.
لذلك فإن قراءة الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، ومن ثم سحب جزء من بطاريات الباتريوت من دول الشرق الأوسط، كالأردن والسعودية والعراق وعمان، واحتمال سحب جزء كبير من قواتها في العراق وسورية في المرحلة المقبلة، يقرأ أمريكياً بأنه انتهاك لهذه الظاهرة.
ولكن في المقابل قد تقرأ من جانب آخر أن الخسائر الأمريكية في العدة والعتاد خلال عقدين من الزمن تقريباً، وخاصة بعد غزو أفغانستان، لم يصل لدرجة المصالح بحجمها، وهو ما كشفه الرئيس السابق دونالد ترامب بأن هذه الحروب قد كلفت أميركا عشرات المليارات من الدولارات، وهذا صحيح.
لذلك فإن القول بأن أميركا تريد سحب جزء من قواتها من المناطق المتأزمة نحو الصين لمجابهة الأخيرة فقط، هو مجرد أحجيات، والدليل على ذلك أن لدى أميركا ما يقارب من نصف مليون من جيشها في أوروبا وهي دول آمنة وتابعة لها سياسياً وعسكرياً، لماذا لا يتمّ نقلهم نحو الصين؟. إذن تخفيف الخسائر الذي قد يكون له تداعيات على الوضع الاقتصادي بالدرجة الأولى، وعدم سقوط المزيد من الهيبة الأمريكية التي لم تستطع تحقيق أي إنجاز عسكري في المنطقة وخاصة مع محور المقاومة سوى التدمير والقتل والسرقة، هو السبب الأول.
أما السبب الثاني فيكمن في أن سحب بطاريات الباتريوت من المنطقة جاء بقرار رسمي بعد ما تعرضت له هذه المنظومة من انتكاسات في السعودية وداخل الأراضي المحتلة في فلسطين، فهي لم تستطع صدّ صواريخ محلية الصنع وعجزت بنسبة قاربت 76% وفق تقديرات معهد “بن غوريون” في التصدي لأهدافها. وهذا من شأنه أن يؤثر على هيبة المجمّع الصناعي العسكري الأمريكي الذي يعتبر أحد أهم مصادر الدخل القومي للخزينة الأمريكية من ناحية، ومن ناحية ثانية يعطي المجال للصناعات الأخرى التي أثبتت فعاليتها مثل صواريخ أس 300 و400 للحلول بمكانها.
إذن لم تكن أميركا صادقة في ذرائع انسحابها، فهي لم تحقق هدفها في أفغانستان بل وتطالب بانسحاب آمن من طالبان، وفي سورية والعراق وإيران لم تحقق واشنطن مبتغاها، واليمن اليوم يتحكّم بمشهد إدارة تصدي العدوان، والكيان الإسرائيلي بات يخشى على وجوده، والاتفاق النووي قريباً سيعود للتطبيق وسيتمّ الاعتراف بعودة إيران للنادي النووي. وكلّ ما سبق يؤكد أن الخوف من المزيد من الخسائر والحفاظ على ما تبقى من هيبة أميركا وصناعاتها هي الأسباب الحقيقية للانسحاب، مع العلم أن هناك تقديراً بأن الصين باتت تملك ترسانة صاروخية وبحرية تهدّد كل القوات الأمريكية القريبة والمحيطة بها.