“حرب المياه” التركية.. التصحّر يطال 70% من أراضي العراق
تقرير إخباري- البعث:
في كل عام، ومع دخول فصل الصيف، يشهد العراق تحديات كبيرة تتمثّل بانخفاض منسوب نهري دجلة والفرات، نتيجة “حرب المياه” التي تشنها السلطات التركية المتعاقبة منذ عقود، ولكنها هذا العام تبدو أكثر حدّة وشراسة، الأمر الذي دفع الرئيس العراقي، برهم صالح، إلى وصف ما يجري بأنه “حرب مياه”، بعد تقارير تحذّر من كارثة قد تضع مياه العراق في المستقبل القريب في خطر كبير، وقال: إن “بناء السدود على دجلة والفرات أدى إلى نقص متزايد في المياه، بات يهدد إنتاجنا الزراعي وتوفير مياه الشرب، وقد يواجه البلد عجزاً يصل إلى 10.8 مليار متر مكعب من المياه سنوياً بحلول عام 2035”.
ومنذ عقود يقوم النظام التركي بتخفيض حصص العراق من المياه، ويقيم السدود العملاقة، الأمر الذي أدى إلى تأثيرات كارثيّة على المزارعين ومربي المواشي، الذين يجدون أنفسهم مرغمين على النزوح وبيع أراضيهم، بعدما نفق عدد كبير من مواشيهم، وابتلعت المباني ما تبقى من أرض صالحة للزراعة، فيما أكد وزير الموارد المائية العراقي مهدي رشيد أن “الواردات المائية القادمة من تركيا لنهري دجلة والفرات انخفضت بمقدار 50%”.
ويقول المتحدث باسم الموارد المائية عوني ذياب: إن نسبة الضرر تقع عند نهر الفرات بواقع يقترب من نصف المنسوب بسبب تجاوزات تركيا، وعدم إطلاق الحصص المائية المتفقة عليها، ويوضّح إن “الأزمة في نهر الفرات تأتي من عدم التزام الجانب التركي بالاتفاق الذي يقضي بموجبه ضخ 500 متر مكعب من المياه في الثانية الواحدة، عبر الأراضي السورية العراقية، فيما ما يتدفق الآن لا يتجاوز 200 متر مكعب”.
التصحّر يطال 69 % من الأراضي العراقية
اليوم، بات الوضع مأساوياً، فقد تسبّب شح المياه في نهري دجلة والفرات، خصوصاً بسبب السدود التي يبنيها نظام أردوغان، وامتلاء مجاريهما بكمّ هائل من نفايات كلّ المدن التي يعبرانها، بكارثة في شطّ العرب، حيث بدأت الملوحة تغزو الأراضي الزراعية وتقتل المحاصيل، وطال التصحر “نسبة 69% من أراضي العراق الزراعية”، وفق ما يقول مدير قسم التخطيط في دائرة الغابات ومكافحة التصحّر المهندس الزراعي سرمد كامل، مشيراً إلى أن الأرض الزراعية هي الضحية الأكبر من اجتياح الجفاف والتصحّر، والتزايد المطّرد في أعداد السكان.
ويشرح الاقتصادي أحمد صدام: “من جهة، يزداد الطلب على السكن، أما الزراعة، فلم تعد تنتج مدخولاً كبيراً”.
في محافظة البصرة حيث يقطن، أصبحت أسعار الأراضي تصل إلى “ما بين 20 و120 مليون دينار” أي نحو 27 ألفاً إلى 82 ألف دولار أميركي.
بالنسبة للمزارعين، تلك “مبالغ هائلة لم يربحوا مثلها قط، ولذلك قاموا ببيع أراضيهم”، وفق الخبير، مضيفاً: بفعل ذلك، “تتحول 10 بالمئة من الأراضي الزراعية كل عام إلى أحياء سكنية”. ومن شأن تلك الظاهرة أن تسرّع منفى أهل الريف العراقي في بلدهم بفعل الاضطرابات في التوازن الاقتصادي والاجتماعي والمناخي.
وفي هذا البلد ذي المناخ الصحراوي القاسي، حتّى قبل التحولات المناخية الصعبة، شكّلت الأهوار في الجنوب ملاذاً لقطعان الجواميس، التي تلجأ لمياهها العذبة احتماء من درجات حرارة تفوق الخمسين في الصيف.
وفي أقصى جنوب العراق، شكّل شطّ العرب، المنفذ الوحيد للعراق على البحر، جنّةً للملاحين وسط بساتين النخيل العامرة.
ويشكو توفيق من البصرة في جنوب العراق بأن “كل ما نزرعه يموت، أشجار النخيل، البرسيم، وهي عادةً نباتات تحتمل المياه المالحة، كلها تموت”.
في الأعوام الماضية، تسببت ملوحة المياه بتحويل آلاف الهكتارات من الأراضي إلى أراض بور، وبدخول مئة ألف شخص إلى المستشفيات في صيف العام 2018.
ويشرح المهندس الزراعي علاء البدران من هذه المحافظة النفطية بأنه “هذا العام، وللمرة الأولى منذ نيسان وبدء الموسم الزراعي، ارتفعت نسبة المياه المالحة”.
وتعدّ ملوحة المياه، مرفقةً بالارتفاع الشديد في درجات الحرارة، ضربة قاضية للقطاع الزراعي العراقي الذي يشكّل نسبة 5% من إجمالي الناتج الداخلي ويوظّف 20% من إجمالي اليد العاملة في البلاد.
غير أنه قطاع ضعيف أصلاً، فهو لا يؤمن أكثر من نصف احتياجات البلاد الزراعية، فيما تغرق الأسواق بواردات زراعية ذات جودة أعلى.
7 ملايين عراقي تضرروا من الجفاف
وفي الإجمال، تضرّر “سبعة ملايين عراقي” من أصل 40 مليوناً، من “الجفاف والنزوح الاضطراري”، وفق ما ذكر الرئيس العراقي في تقرير أصدره عن التغير المناخي.
في الجبايش في جنوب العراق، المنطقة الواقعة ضمن أهوار العراق، والمشهورة تاريخياً بمسطحاتها المائية منذ أيام السومريين، ابتلي الفلاح علي جاسب بالترحال المستمر. عليه أن يقطع، كل موسم، مسافات هائلة ليؤمن لجواميسه البيئة الملائمة لإنتاج الحليب الذي يشكّل الدخل الوحيد لعائلته. ويروي الرجل مأساته: “كل شهرين أو ثلاثة أشهر، علينا النزوح لنجد المياه”، مضيفاً “إذا شربت الجواميس المياه المالحة، تتسمم، وتتوقّف عن إنتاج الحليب ثمّ تنفق”.
وأصبح جفاف الأنهر والأهوار واضحاً بالعين المجردة ويتسارع بشكل مطّرد في بلد شهد منذ 40 عاماً حروباً وأزمات متتالية أضرّت بشدّة بالبنى التحتية، فبات العراق يفتقر إلى مقومات التأقلم مع مناخ لا ينفكّ يزداد قساوة. وبحسب الأمم المتحدّة، فإنّ 3,5% من الأراضي الزراعية في العراق فقط مزوّدة بأنظمة ري.
ويثير هذا الوضع قلق رعد حميد وهو أيضاً مربي ماشية، والذي يقول، بينما يقف على أرض متصدّعة ومحترقة بفعل الشمس القوية، “قبل عشرة أيام فقط، كانت هذه الأرض موحلة، كانت هناك ماء وخضار”.
وليست هذه سوى البداية. ففي السنوات القادمة، سوف تزداد تداعيات التغير المناخي حدّة، كما كتب الرئيس العراقي: “مع وجود أعلى معدلات التزايد السكاني في العراق، تُفيد البيانات بأن عدد سكان البلد سيتضاعف من 38 مليوناً اليوم إلى 80 مليوناً بحلول عام 2050، وهذا يُضاعف المخاطر الاقتصادية والاجتماعية لتغيّر المناخ إذا تُركت من دون معالجة”.
يضاف ذلك إلى ارتفاع درجات الحرارة درجتين وانخفاض المتساقطات بنسبة 9% بحلول العام 2050، وفق صالح.
في منطقة خانقين في شرق العراق، يتحسّر المزارع عبد الرزاق قادر، البالغ من العمر 45 عاماً، على أرضه ومحاصيله، ويقول: “أربع سنوات مرّت بدون مطر” على حقله للحنطة الممتد على مساحة 38 هكتاراً. ويفكّر عبد الرزاق جدياً بالتخلي عن الزراعة والعمل كعامل بناء، كما فعلت غالبية فلاحي منطقته الذين هجروا حقولهم لسوء الأوضاع وغيّروا مهنتهم.
وفي مطلع العام الحالي، أبدت وزارة الموارد المائية عن قلقها من تحرّك النظام التركي بصدد إنشاء المزيد من السدود على حوض ومصبات نهر دجلة للاستيلاء على مزيد من المياه.
ويقع السد الأول المزمع إنشاؤه عند منطقة شمال ديار بكر ويطلق “سيلبان”، وهو مصمم للاستخدام في المشاريع الأروائية، فيما يقع الآخر وهو سد الجزرة، في منطقة ماردين الواقعة على الحدود السورية العراقية التركية، والذي سيستغل لتنفيذ المشاريع.
وكان نظام أردوغان بدأ بتدشين أكبر السدود على نهر دجلة في 2018، ما يعرف بـ”إليسو”، بعد عمل استمر نحو 12 عاماً، والذي أثّر بشكل كبير على تدفق المياه باتجاه الأراضي العراقية.