ما العمل ؟؟..
د. مهدي دخل الله
سؤال كبير يطرح عادة في الأحوال الصعبة لأن « العمل » عندها يكون الطريق الوحيد للخلاص . مقابل العمل يأتي الخضوع ولا ثالث لهما . هذه هي فلسفة الحياة على مستوى الأفراد والمجتمعات ..
والعمل تعريفاً هو كل جهد – فرديا كان أو جماعيا – له بعد اجتماعي ، أي أن المجتمع يعترف به ويتأثر به كجهد مفيد . وعادة عندما يكون هناك حالة صعبة عامة ( أي أنها تعم الجميع ) يصبح البعد الاجتماعي للعمل أكثر أهمية ، ذلك لأن الشعور بـ « الخير العام » لدى الأفراد يكون قوياً عندما يكون هناك « شر عام » ضاغط على الجميع ..
تجربة الشعوب الأوروبية بعد سيطرة « الشر العام » ، المتمثل في حربين عالميتين دمرتا بلادهم ، تؤكد هذا التحول من اهتمام الفرد بخيره الخاص إلى الاهتمام بالخير العام . في المدن الأوروبية ، عندما تدخل منزل أحدهم قد تجد فيه إهمالاً ما ، لكن هذا الفرد مستحيل أن يلقي عقب سيجارة أو ورقة في الشارع بسبب المستوى الرفيع من شعوره بـ « الخير العام ».. اليوم نحن نعيش تجربة مماثلة ، حيث تسيطر علينا « المصيبة العامة » المتمثلة بالإرهاب والدمار والاحتلال والحروب بأنواعها كلها ، بما فيها الديبلوماسية والإعلامية والنفسية ( الإشاعات ) . لكن أكثر هذه الحروب عمومية هي الحروب الاقتصادية ( حرب التجويع بهدف الإخضاع ) التي وصلت في شدتها مستويات غير مسبوقة ..
هنا بالذات يمكن استنباط مستوى أعلى من الشعور بالخير العام بسبب هذا الحضور الضاغط للشر العام .. أي المحنة الاقتصادية الموجهة من أعدائنا ..
إن أول قواعد هذا الشعور بالخير العام هو وعي أساسي ، لدى كل منا ، بالرابط القوي بين جميع أنواع « العمل » في مواجهة المحنة العامة . المقصود هنا العمل الميداني ( الجيش ) والعمل السياسي والعمل المجتمعي بجميع مكوناته . هذا يعني أن يشعر كل منا – مهما كان عمله اليومي بسيطاً – أن هذا العمل مكمل لأداء الجندي في الجبهة وأن أي تقاعس في أحدهما ينعكس على الجميع ..
إنه « التصدي الشامل » في مواجهة « العدوان الشامل » ، التصدي بأنواعه كلها في مواجهة العدوان بأنواعه جميعها .
والعمل في جوهره الاجتماعي – وإن كان شكله فردياً – له ( اتجاهان ) : الأول « بنّاء » بمعنى إتمامه بالشكل الأمثل ، والثاني « هدّام » بمعنى هدم العوائق أمامه وازالتها .. الحديث هنا عن ثنائية الفساد والإهمال ، ولا تقل مواجهة الإهمال أهمية عن مواجهة الفساد بالتأكيد ..
والعمل في اتجاهه البناء يحول الدافع الخاص ، المتمثل بالأجر أو المنفعة الشخصية ، إلى مجرد مكون من مكونات العمل في مفهومه الشامل ، أي المفهوم الوطني ، مزيلاً بذلك الفرق بين المنفعة الخاصة والعامة . فالمنفعة الخاصة إن كانت مستقلة تقتضي بذل أقل جهد ممكن مقابل أكبر أجر ممكن ، لكن المنفعة الوطنية تقتضي بذل أكبر جهد ممكن ، ليس من أجل الأجر فحسب ، وإنما من أجل تحقيق الهدف الوطني الشامل ..