التلوث المعنوي
غالية خوجة
ليس مثقفاً بكل المقاييس والمفاهيم من يلجأ للمعارضة فقط من أجل المعارضة ليبدو مثقفاً! فماذا لو رأينا المشهد الثقافي من زاوية تبئيرية أخرى؟.
اعتاد المشهد الثقافي على أخطاء مفاهيمية وفكرية شائعة، منها ضرورة عدم التطابق بين المثقف والسياسي، وهي “موضة” بحجة أن المثقف لا يعجبه شيئاً أقل من الكمال، وبحجة أخرى أوهى ليبدو المثقف مثقفاً!.
الثقافة لن تكون إذا لم تكن عضوية ومحورية ومتفاعلة ومهمّة لبناء الذات والمجتمع والوطن، والمثقف ليس مثقفاً إن لم يكن مثقفاً بكلامه وسلوكه ويسعى إلى الكمال بدءاً من نفسه، ثم كيف يطبّق ذلك عملياً وميدانياً لكي يؤثر بهذا التغيّر نحو الكمال والأفضل في أسرته ثم بيئته والمجتمع.
العجيب الغريب أن بعض “المثقفين” لا يكترثون بالفعاليات الثقافية إلاّ لأسباب معينة، ومنها إبراز أمراضهم النفسية والفكرية والدوران حول ذاتهم النرجسية المتضخمة، كما أنهم لا يحضرون الأنشطة بشكل عائلي حضاري، وفعّال وجاد، لأن أغلبهم يحضر من أجل مآرب أخرى، قد تكون كيدية، أو غرامية، أو شللية.
وهناك من لا يحضر الأنشطة الثقافية استعلاءً عليها، كون القالب الذي خرج منه كُسر كي لا يكون أحد مثله، وأظن متيقنة أن واحداً من هذا النموذج يكفي المشهد الثقافي لكي نصاب جميعنا بمرض عام أسميه “مرض التلوث المعنوي الفكري والروحي”.
ويسألونك أين الجمهور والمتلقون والحضور والمتفاعلون والراغبون رغبة بالثقافة والمعرفة والفنون؟.
طبعاً، لأسباب عديدة ومتنوعة لا يحضر الراغبون والمهتمون، منها الوقت الضائع في الزمن الضائع “ليس زمن بروست”، بل زمن البحث عن اللقمة مقابل الجشع، وزمن البحث عن الألعاب الإلكترونية ومنصات التواصل الاجتماعي بدل الحضور المباشر، وزمن كورونا، وزمن إهمال التربويين والمعلمين للرهافة العقلية والمخيلتية والروحية والقلبية لتشجيع المواهب، وزمن الهروب من آلام الواقع إلى الآمال الافتراضية الخادعة، وزمن البحث عن المعادل النفسي المضيء في زمن مصاب بالانفصام والحروب الظالمة والتحطيم والتدمير، وزمن تكرار النشاط الثقافي ودورانه حول ذاته دون الإتيان بجديد جاذب ومشوق ونافع، لأن “المثقفين” المعارضين من أجل المعارضة فقط، لا يفكرون كيف يعارضون ثقافتهم، ونصوصهم، وذواتهم وأمراضهم الأخرى، لكي ينتجوا ما هو أفضل وأقرب إلى الكمال النصي والإنساني!.
بالمقابل، ليس سياسياً من يعارض المثقف لأنه مثقف فقط، لأن هناك ثلّة من المثقفين جديرة بتبنّي آرائها وأفكارها البنّاءة في زمن البناء والإعمار والمتغيرات الأفضل، والسعي نحو تطبيقها ضمن الإمكانات المتاحة والمستقبلية للمساهمة في عملية التفاعل على كافة الأصعدة، لأن المثقف الحقيقي الجوهري لا يكترث بمصالحه الضيقة الخاصة، بل يهب حياته للصالح الوطني العام، وهذا المثقف هو بمثابة الروح والعقل والأمل والطموح والمستقبل للمجتمع الذي يحتاج، أيضاً، إلى نظرة عادلة لعصب الحياة ودورتها الدموية، وأعني الثقافة والحالة الاقتصادية بمجملها، من خلال استبعاد الجشع، والمحاسبة القانونية لكل من تسوّل له نفسه التلاعب بأقوات الناس.
المجتمع هو هؤلاء الناس الذين يذرفون دموعهم من أجل رغيف الخبز، ويذرفون دموعهم لأنهم بسبب انشغالهم بلقمتهم اليومية لا يستطيعون حضور الأنشطة الثقافية والفنية، لأنهم يرغبون في التعرّف إلى أنفسهم، ومجتمعهم، وتدريب عقولهم على استيعاب الفنون والآداب الإنسانية، ويرغبون في التغيّر نحو الأفضل للمساهمة في بناء ذواتهم ووطنهم بطريقة أقرب إلى الكمال.
ترى، متى يدرك الجميع أن المجتمع يتكامل مثل سيمفونية طبيعية، كل درجة موسيقية فيها تتناغم مع الأخرى، وكل علامة فيها ضرورة لكي يكتمل العزف بجمالية حياتية تسعى معاً نحو الأفضل؟.