سُهاد في بوينس آيريس
إحدى السمات المميزة لأدب أمريكا اللاتينية هي الطريقة التي يمزج بها المؤلفون بين العناصر الغيبية، ويصح هذا بصورة خاصة مع ظهور ما يُعرف باسم “الواقعية العجائبية”، ففي هذا الأسلوب الأدبي، تمتزج الحياة مع عناصر غيبية وأحداث غير مفسرة، فيطمس المؤلفون الخط الفاصل بين الواقع والخيال، وهذا المزيج يدفع الحبكة والقراء نحو الحياة الباطنية للشخصيات بطرق مذهلة.
وعلى الرغم من أن الأسلوب لا يقتصر على الكتاب الناطقين بالإسبانية، نجد أكثر خصائصه تميزاً وتشويقاً في مخرجات أمريكا اللاتينية الأدبية، إذ حسّن هذا الأسلوبَ كتابٌ أمثال خورخي لويس بورجيس وغابرييل غارسيا ماركيز وإيزابيل الليندي ولورا إسكيفيل، وأتقنوه.
وفي مجموعة قصصية ترجمت إلى الإنكليزية حديثاً، بعنوان “مخاطر التدخين في الفراش”، استخدمت الكاتبة الأرجنتينية ماريانا إنريكيز تقليد الواقعية العجائبية مع مزيج فريد ومبتكر من قصص دينية وتسجيلات اجتماعية للأحداث وقصص رعب.
تدور معظم القصص في المجموعة في بوينس آيرس، فندرس من خلالها حياة مراهقات؛ ونساء لم يحسنّ السيطرة على حياتهن؛ ورجال ضائعون أو منفصلون وجودياً عن تجارب أنثوية واقعية؛ والاضطرابات السياسية؛ والبغاء؛ والاتجار بالبشر.
كل هذه حقائق في نظر من يعيشون في بوينس آيرس، وهي مدينة يستحيل فيها تجنب مثل هذه المشاكل. إنها مدينة تفترس أهلها، ولا تبالي بمحنة الفقراء والمهمَلين، مدينةٌ يظل سكانها حذرين من المتاعب المتواصلة التي تواجههم، ومدركين لها.
كتبت إنريكيز كل قصة من منظور أنثوي، وأخفت صوتها في حياة شخصياتها. قدراتها في سرد القصص رائعة، حتى إن المرء يشعر في أحيان كثيرة أنه يجلس مع إنريكيز على طاولة المطبخ، يستمع إلى حكاياتها الخيالية والباطنية والأسطورية عن الأرجنتين، فيظل القارئ متشوقاً، على أمل أن تحل الألغاز نفسها في النهاية.
الدين والخرافة والرعب
في الواقعية العجائبية، لا تسري الفروق التي نرسمها عادة بين الدين والخرافة بالضرورة على قصص إنريكيز، إذ إن للدين القدرة على الانزلاق نحو الخرافة المحضة، وعند هذه النقطة يفقد مكونه الأساسي، الإيمان. لكن الخرافة في نظر إنريكيز تميل لأن تكون نتيجة الهوس بالإيمان.
زيادة على ذلك، تجد الشخصيات نفسها في عالم يبدو أن لا أحد يسكنه إلا هم، ويفقدون تدريجياً الإحساس بالزمان والمكان، ففي قصة “البئر”، تمر جوزيفينا بتغييرات غريبة في حياتها، وتبعها الخوف والظلام طوال عمرها، وبدا أن كل لحظة مظلمة كانت محتواة في حدث من طفولتها، تزور خلاله طبيبة ساحرة.
تمزج أوصاف إنريكيز للتحف الدينية بين الجمال والقبح، فتنقل التحف الترويع الجميل للأشكال المخيفة التي قد نراها كل يوم ونادراً ما ننظر إليها من جانب مختلف، مثلاً، تقف جوزيفينا أمام المذبح في منزل الساحرة لتجد:
“جوارب أطفال صوفية، وباقات زهور غضّة ومجففة، وصوراً فوتوغرافية ملونة، وصوراً بالأبيض والأسود، وصلباناً مزينة بحبال حمراء، ومسابح كثيرة، منها البلاستيكي، ومنها الخشبي، ومنها المعدني المطلي بالفضة. كان هناك أيضاً صورة قبيحة للقديس سان لا مويرتي الذي صلّت له جدتها، والذي يرمز إلى الموت – وهي عبارة عن هيكل عظمي يحمل منجلاً. كان هناك عدة صور لهذا القديس بأحجام وخامات مختلفة، بعضها بتفاصيل تقريبية، وبعضها الآخر منحوت بصورة مفصلة، مع محجري عينين سوداوين عميقين وابتسامة عريضة”.
التمست جوزيفينا مساعدة الساحرة لتعالج فرداً من عائلتها من حالة مسّ شيطاني، لكن تبين لها أن المسّ هو مرض عقلي متوارث، ما جعل الواقع سوداوياً أكثر من الخيال، ولكن هذا ما يجعل القصة فريدة من نوعها، إذ إننا دوماً نتساءل إن كنا تجاوزنا الخط الفاصل بين الواقع وعالم الغيب، أو إن كنا موجودين في عالم قائم على العقل والحواس.
تشعر جوزيفينا، كالعديد من الشخصيات الأخرى في المجموعة القصصية، بأنها منفصلة عن التقاليد أو الدين، إذ تتحدث الساحرة في القصة عن “شر قديم.. شر لا ينطق به أحد.. ولا حتى المسيح قادر على هزيمته“. ثم يتحول السؤال إلى عجب من ماهية هذا التقليد، أهو عقيدة جامدة كالكاثوليكية المنهجية أم أن الشخصيات ترفض الدين وتفضل عبادة تفتقر إلى منظور تاريخي؟ المفارقة أن هذا الشك بالمسيح يجعل الإيمان أقوى لأن طلب الخلاص لا ينتهي.
لا تصور إنريكيز الدين بصورة سلبية أو إيجابية، بل أنه حقيقة وقعت في شرك حكايات الخير والشر الفولكلورية، والشخصيات ليست وثنية تماماً لأنها تسعى إلى خلاص روحي وجسدي من مشاكلهم التي تمس الجسد والعقل.
ما يجعل هذه المجموعة القصصية فريدة ومتميزة هو حقيقة أن الظلام المادي والدين والخرافات هي ترياق للشعور العالمي بالاغتراب. يطلق على ذلك اسم “الإقليمية” في الأدب الأمريكي في القرن العشرين، ويمكننا – بطريقة أو بأخرى – وضع الطابع نفسه على أعمال إنريكيز. لكن حتى هذا لا يزال وصفاً غير وافٍ لفرادة كلماتها، إنها متجذرة بقوة في الهوية الأرجنتينية.
تنتظر شخصيات إنريكيز دائماً نوعاً من الحل لحالتهم الإنسانية، ولكن أكثر شيء يبحثون عنه هو الخلاص، ويبقى أن نرى إن كان هذا الخلاص سيأتي يوماً ما.
ترجمة: علاء العطار