طالبان تهيمن على المشهد الأفغاني بعد الانسحاب الأمريكي
محمد نادر العمري
المشهد في أفغانستان لا يقلّ تعقيداً في الوقت الحالي عما كان عليه قبل إعلان قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية الانسحاب منها في عهدي إدارتين متتاليتين ولحزبين مختلفين في أميركا، والتعقيد هنا يكمن في ثلاث جزئيات أساسية: أولها مدى مصداقية القوات الأمريكية بالانسحاب الكامل منه وعدم توظيفه كمنطقة جغرافية لتطبيق إستراتيجيتها المتمثلة في احتواء النفوذ الصيني عبر إغراق آسيا الوسطى بالفوضى المنظمة والصراعات القابلة للتمدّد. ثانياً مساعي العديد من الدول للحلول محلّ القوات الأمريكية لتوسيع نفوذها كما يسعى النظام التركي في ذلك، سواء لكسب الودّ الأمريكي أو لتوسيع نفوذه العثماني أو بفعل المقايضة والاستفادة من صراع الجميع واستغلال ذلك لتحقيق المزايا من الصين وروسيا وإيران وأميركا. أما المنحى الثالث والأكثر أهمية فهو شكل الحكم في أفغانستان في المرحلة المقبلة ومن سيتولّى إدارة مفاصل القيادة وأي سياسة سينتهج.
تشير الوقائع والاستطلاعات التي أجرتها مراكز الدراسات الغربية وخاصة “معهد واشنطن للدراسات في الشرق الأدنى” إلى أن حركة طالبان، هذا التنظيم الذي لم تستطع أميركا هزيمته، بات اليوم القوة الأكثر حضوراً ونفوذاً وشعبيةً، بل له ما له من تأييد خارجي ربما يمكّنه من تمكين سلطته الداخلية، ويمكن الاستشهاد على هذا النفوذ المتنامي من خلال عدة مؤشرات باتت تشكل اليوم حقيقة واضحة المعالم لجميع المتابعين والمختصين في العلاقات الدولية وحتى العسكرية.
من جانب تمكّنت حركة “طالبان” من السيطرة على أجزاء كبيرة من أفغانستان بعد الخروج المذلّ للقوات الأميركية، وهذا ما كان ليحدث لولا ما سُمّي “اتفاق الدوحة”، والذي تضمن خروج القوات العسكرية الأميركية من الأراضي الأفغانية، بذريعة قدمها دونالد ترامب حينها ونسبها إلى “الكلفة الهائلة التي تحمّلتها الولايات المتحدة جراء هذه الحرب منذ العام 2001، عندما قرّر الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن محاربة تنظيم “القاعدة” بقيادة أسامة بن لادن”.
من جانب آخر خروج أميركا بهذه الصورة المهينة ودون تحقيق أهدافها وانسحابها بشكل سريّ من قاعدتها في قندهار في أيار الماضي، ومن ثم من قاعدة “باغرام” الجوية -أكبر قاعدة جوية للناتو وأميركا في البلاد- يمنح طالبان نفوذاً أكبر في الشارع الأفغاني، لأنها ستستثمر ذلك بالقول بأن أميركا تنسحب سراً خشية من ضرباتنا الموجعة، ونحن من قمنا بذلك وأجبرناها على المغادرة، وهو ما سيمنحها التأييد الشعبي الذي سيدعم قوتها السياسية في المرحلة المقبلة.
من جانب ثالث فإن طالبان ستدّعي أن الحكومة الحالية والرئيس أشرف غني هم حلفاء لأميركا والغرب، ويجب أن يقوموا بالتنحي أو أنهم سيلقون مصير رئيس البلاد نجيب الله، الذي أعدمته “طالبان” نتيجة اتصاله وعلاقاته الإيجابية مع الولايات المتحدة، وهو ما سيدخل أفغانستان في صراع مسلح بين الحكومة وطالبان، والذي بدأت نواته في 16 منطقة خلال الأسبوع الأول من حزيران الفائت، ولن تكون الكفة فيه لمصلحة الحكومة الحالية، نتيجة ما تمتلكه طالبان من ذرائع وإمكانات عسكرية استطاعت من خلالها إغراق الاتحاد السوفييتي في مستنقعها، ودفعت أميركا للخروج بهذه الصورة المهينة.
المؤكد والحتمي أن حركة “طالبان” لن تعترف بالحكومة الأفغانية الحالية، ولا بالرئيس أشرف غني، وهي أعلنت في السابق أنه لا يمكن أن تنخرط في العملية السياسية في أفغانستان لأنها لا تؤمن بهذا النوع من السياسة، الذي تصفه بالسياسة الاستعبادية للاستعمار، كما أن فكرها وإيديولوجيتها يفرضان عليها سياستها الخاصة التي تتعارض كلياً مع سياسة غني، وتتعارض مع السياسة الأميركية غير المعلنة، وبالتالي هي اليوم لا تبالي بما يقال هنا وهناك عن استيلائها على مناطق شاسعة من أفغانستان، وربما تصل إلى كابول في قادم الأيام بعد سيطرتها على قندهار، وتزداد شعبيتها في ظل خروج أميركي سريع من البلاد، والثقة التي تحدث بها وفدها أثناء زيارته لروسيا من أنه لن يسمح بوجود “داعش” وأن طالبان تسيطر على 85% برضا الشعب خير دليل على ذلك.