دراساتصحيفة البعث

عشية الرحيل الكبير

الدراسات

عشية الرحيل الكبير للقوات الأمريكية من أفغانستان، الذي سيُستكمل بحلول 11 أيلول، موعد الذكرى العشرين لهجمات أيلول، من الضرورة بمكان الإضاءة على الأسرار التي بنت عليها الولايات المتحدة خطواتها والتي كان لها لاحقاً الأثر الكبير في قلب المعادلات التي كانت سائدة قبل انهيار الاتحاد السوفييتي السابق.

ولعلّ من أهم الأسرار التي يجب الإضاءة عليها هو ما ذكره كتاب “رقعة الشطرنج الكبرى” لـ زبيغنيو بريجنسكي من أن أوراسيا لا يمكن توحيدها إلا “بقضية الله” التي اعتمدتها وكالة المخابرات المركزية، حيث أطلقت، في عام 1979، عملية الإعصار (أكبر عملية سرية في تاريخ الوكالة)، وأنفقت خلالها أكثر من مليار دولار على الإرهابيين، من خلال تزويدهم بأحدث الأسلحة والتدريب المتقدّم لنشر التشدّد في جميع أنحاء جمهوريات آسيا الوسطى. وكان بريجنسكي، المولود في ظل طبقة النبلاء البولنديين، والذي جعلت منه تجربة عائلته في الحرب العالمية الثانية القوة الدافعة لإستراتيجية إدارة كارتر في أفغانستان. وفي النهاية اعترف بأن نيته كانت “الحث على تدخل عسكري سوفييتي” في أفغانستان. وأوضح للمجلة الفرنسية Nouvel Observateur، في عام 1998، أن “تلك العملية السرية كانت فكرة ممتازة لجر السوفييت إلى الفخ الأفغاني”.

وبعد دخول القوات السوفييتية أفغانستان، تمّ إنشاء مئات المنظمات الإرهابية، بما في ذلك القاعدة – الجهاد – اتحاد العلماء الأفغاني – الجماعة السلفية للتبشير والقتال – الحركة الإسلامية في أوزبكستان – حركة الأنصار – جمعية العلماء – جمعية علماء الباكستان.. وغيرها الكثير.

في العام نفسه الذي بدأ فيه الانسحاب السوفييتي من أفغانستان، صوّرت مجلة تايم على غلافها، الاتحاد السوفييتي كـ”دب رابض” يجلس بشكل مريح في موقعه على بقية العالم. لقد تحول “الإسلام” لاحقاً إلى العدو الأكبر التالي لأمريكا بعد التفكك القسري وغير الديمقراطي للاتحاد السوفييتي والتراجع العالمي للأحزاب الشيوعية على المستوى الدولي. وفي وقت لاحق، نشر الغرب الجماعات الإرهابية في جميع أنحاء المنطقة، وموّل المنظمات الانفصالية كوسيلة للحفاظ على الهيمنة على المنطقة، مع احتواء كافة الدول، مثل روسيا أو الصين، أو أي تهديد آخر لهيمنتها في المنطقة في الوقت نفسه.

لم تكن الأسلحة هي كل ما تدفق إلى أفغانستان بفضل حكومة الولايات المتحدة، فقد قدمت منحة بقيمة 51 مليون دولار من الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) إلى مركز دراسات أفغانستان التابع لجامعة نبراسكا، ونحو 4 ملايين كتاب مدرسي ساعد في تحويل المدارس الأفغانية إلى مراكز تلقين إرهابي. لقد تمّ تقديم الكتب في عام 1986، وتمّ إنشاؤها لتهيئة الأطفال الأفغان أيديولوجياً ليصبحوا جنوداً للإمبراطورية.

لاحقاً، تبنّت طالبان الكتب باعتبارها كتباً خاصة بها، وحطّمت وجوه الجنود لتتماشى مع القيود الدينية مع الحفاظ على اللغة التي وصفت الإرهابيين بأنهم “مجاهدون في سبيل الله”. ساعد التدخل الأمريكي في الصراع السوفييتي الأفغاني على تأجيج واحدة من أسوأ أزمات اللاجئين في التاريخ. ووفقاً لروديجر شوش، الباحث في المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، لم يتمّ استقبال الأفغان في باكستان كلاجئين فارين من الاضطهاد في بلادهم، ولكن بالأحرى كـ “مجاهدين في الصراع ضد الطغيان الملحد”.

واليوم تنسحب الولايات المتحدة من المقر الذي تمّ تصنيع الإرهاب العالمي فيه بعد أن أدى الدور المطلوب أو الدور المرسوم له، لتترك تلك البقعة من الأرض إلى الوليد الجديد الذي لا شك أنه سيكون بمثابة المخلب لمحيطه، وبالتالي بؤرة دائمة الاشتعال تقلق الجيران، أو ربما تكون بمثابة مصيدة للصين وطريق حريرها لإعادة التجربة السوفييتية الماضية.