إيميل حبيبي الكاتب الذي أصر على جسده ألا يغادر حيفا
“البعث الأسبوعية” ــ فيصل خرتش
كان أحد أهم المبدعين العرب، لأسلوبه الجديد وتميزه عن غيره من المبدعين في الرواية والمسرح، إذ اعتبر النقاد أعماله أفقاً جديداً في الأدب، وقد أنجزت المخرجة داليا كاربيل فيلماً عن حياته، وضعت له عنواناً “إيميل حبيبي.. باق في حيفا”، وهي ذات الوصية التي كتبت على قبره.
لقد هجن هذا الفلسطيني الذي ظل في أرضه الشكل الأوروبي، ووضع عناصر سردية وغير سردية اجتلبها من التراث العربي، وأضاف إليها الحكايات الشعبية الموروثة التي سمعها من الجدات.. كلَ هذا جعله يخرج من قبضة الشكل السردي السائد. وقد أقام صلات قربى مع النثر العربي القديم وكتب السيرة والتاريخ و”ألف ليلة وليلة” والمقامات، كل هذا المخزون الشعبي تفجر ليقوم بصنع التراجيديا الفلسطينية. كان همه البقاء في الدرجة الأولى.. إنه يتذكر وتأتيه اللغة الشعرية الدافقة ثم يأتي تيار الوعي وتعدد الأصوات لينقلها إلينا عملاً أدبياً يقوم على السخرية والتهكم واللامعقولية. إنه يهتم بالأشياء الصغيرة التي لا تهم أحداً ويصنع منها أشياء محببة تقبع في وجداننا، فها هي الأشجار وحجارة الطريق تصبح الذاكرة اللغوية التي يتغنى بها الكاتب كي تبقى إرثاً للذاكرة الفلسطينية، وها هي العادات والتقاليد بين البشر تمنحه الراحة والدفء وإذا هو، من حيث لا يدري من أعظم رواد الأدب الفلسطيني والعربي بدون منازع.
دعا إلى التشبث بالأرض والهوية واستقرأ التحولات في أعماق الفلسطيني وطالب بلقاء أبناء هذا الشعب المشتت مع بعضهم. شغلته الفانتازيا والتلاعب بالألفاظ وتوَجها بالسخرية السوداء، لأنه هكذا مأساة لا تحتمل الكتابة إلا بهذا الشكل، وهو القائل: “حين تمضي هذه الغيمة تشرق الشمس”، ويجب علينا أن نلاحظ أنه بدون هذه الوسائل في الكتابة يتهاوى البنيان الروائي الفلسطيني.
إنه يتذكر القرى الفلسطينية ويذكرنا بها كي لا تضيع، هي والناس الذين كانوا فيها: “والبروة هذه قرية محمود درويش الذي قال بعد 15 سنة:
أهنَئ الجلاد منتصراً على عين كحيلـــــة مرحى لفاتح قرية، مرحى لسفاح الطفولة”
شاعر البروة السالف الذكر، قال:
نحن أدرى بالشياطين التي تجعل من طفل نبياً
هكذا هم أطفال فلسطين وها هي عكا تستقبلهم، وقد التفت بعباءة الليل، فيها مدرسته الثانوية، وفيها حبه الأول.. عكا التي صدت حصار الصليبيين، وهي التي ردَت نابليون، ولم يستطع التتار دخولها، كانوا يذهبون إلى المدرسة الثانوية بالقطار، وفي القطار التقى حبيبته، يعاد، الحيفاوية وكانت مثلهم تتأبط كتبها وتتعلم في مدرسة البنات.. كانت تنظر إليه بعينيها الخضراوين، وصارا ينشغلان بأحاديث الحب والجمال، ثم وشى به صاحبه إلى المدير، ومن يومها لم يعثر لها على أثر.
الكاتب يمر على القرى الفلسطينية التي هدمت وزالت معالمها، والتي تغيرت أسماؤها فيذكرنا بها ليؤكد على وجودها وكي لا تنساها الأجيال اللاحقة.. إنها لا تزال محفورة في الذاكرة وفي وجداننا:
– نحن من الكويكات التي هدموها وشردوا أهلها
– أنا من المنشية التي لم يبق حجر على حجر فيها سوى القبور
– نحن من عمقا التي حرثوها ودلقوا زيتها
– نحن من البروة، لقد طردونا وهدموها
– نحن من الرويس، من الحدثة، من الدامون، من المزرعة، من شعب، من ميعار، من وعرة السريس، من الزيب، من الكابري، من أقرت.. هذه هي الذاكرة الفلسطينية التي لا يمكن لها أن تنسى شيئاً، لقد قتلوا البشر واقتلعوا الشجر ونسفوا الحجر، وشردوا شعباً أعزل، لقد ولغوا في دمه، سرقوا القرى ونسفوها ولم يبق لها أثر، ولكن عين التاريخ لا تنام، إنها شاهدة على جرائمهم، وهذا الإنسان الفلسطيني المعذب سيظل يكتب فصول المأساة وكل مراحل النكبة ليكتبها على جذع شجرة زيتون في ساحة داره.
وماذا عن المدينة المقدسة.. حيفا؟
كل مكان في بلادنا قد تقدس بدماء المذبوحين ومدينتك، حيفا، لا تختلف عن بقية مدننا المقدسة.
بعد أن اكتسح الصليبيون مدينة القدس المقدسة، عليها السلام، في سنة 1099، وكتب ملكهم جويفريد رسالته إلى البابا متباهياً بأن أكوام الرؤوس والأيدي والأرجل كانت ترى في ساحات المدينة وطرقاتها، وبأنه في مسجد عمر حيث التجأ المسلمون ووصلت الدماء إلى ركب الخيل، واقتحموا حيفا بعد أن حاصرها أسطول البندقية شهراً فذبحوا أهلها عن بكرة أبيهم، رجالاً ونساءً وأولاداً، هل هناك جرائم أشد فظاعةَ من هذه الجرائم؟ ويتساءل سعيد في اليوميات: لماذا لم تخبرونا عن هذه المجزرة أيضاً؟ إن الذي هدم هذه القرى لا يمكنه أن يعيدهم إليها، وأما الباقون فقد حملوا خرقهم وأولادهم، خرجوا من الباب الكبير الشمالي حيث حُمِلوا في سيارات ضخمة، حملتهم إلى الحدود حيث ألقتهم وتوكلت.
إنَ أعماله تتمتع بسخرية لا حدود لها، يكتبها إيميل حبيبي ببساطة تبلغ حدَ الإدهاش، وهو باق في أرضه كي يشهد على هذه المجازر التي فعلها الصهاينة بحق الأطفال والنساء، ويمكن القول إن أعماله الأدبية هي ضمير العالم المنسي.
إيميل حبيبي ولد في حيفا، والده شكري من شفا عمرو، وهي تقع بالقرب من حيفا، ووالدته وردة، وزوجته ندى، وابنتاه جهينة وسلام، درس في مدرسة المعارف في حيفا، ثم في ثانوية عكا، انتقل بعدها إلى مدرسة مار لوقا في حيفا، وفيها أنهى دراسته الثانوية، عمل في معامل تكرير البترول، ثم انتقل للعمل مذيعاً في محطة إذاعة القدس، تفرغ منذ 1943 للعمل الحزبي، ثم استقال من منصبه ليتفرغ للعمل الأدبي، شارك في مجلة “المهماز”، وكان يكتب فيها باسم “جهينة”، وأصبح رئيساً لمجلة الاتحاد الناطقة بالعربية، كما أسس مجلة “مشارف” التي تعنى بشؤون الأدب والثقافة، وقد منحته السلطة الفلسطينية وسام القدس، وهو أرفع وسام تصدره دولة فلسطين، كما منح من قبل دولة الصهاينة جائزة على مجمل أعماله الأدبية، فأخذها ومنحها لشهداء الانتفاضة الفلسطينية.
إنه يعمل على تكوين شبكة تدور حول الفلسطيني، وهذه الشبكة تنكشف عن كوميديا سوداء يعيشها شعب مشرد على أرضه وداخل وطنه، إنها تمثل الفلسطينيين الذين رفضوا أن يتشردوا في بقاع الأرض، ونظل نردد مع الكاتب: “ذهب الذين أحبهم”.. لقد غنى مع فيروز للريح والمطر والبحر!!