مجلة البعث الأسبوعية

اللوبي اليهودي وأوراق القوة لدى هافانا.. على كوبا أن تستلهم تجربتي سورية وإيران

“البعث الأسبوعية” ــ هيفاء علي

بعد التظاهرات والتظاهرات المضادة التي شهدتها كوبا مؤخرا، يتساءل مراقبون عما إذا كان هناك أسباب للتخوف من تدخل عسكري أمريكي، فما لا شك فيه أن وكالة المخابرات المركزية هي المسؤولة عن الثورة المونة المحتملة في كوبا، وهناك العديد من الوقائع التي تثبت الاهتمام الخاص للوبي الإسرائيلي بإعادة احتلال هذا البلد بشهادة بعض البيانات التاريخية، إذ لطالما كانت كوبا الجزيرة أرضاً للهجرة وشكلت جغرافياً “مفتاح خليج” المكسيك، وكانت نقطة انطلاق هرنان كورتيز للغزو الإسباني للمكسيك، ثم أمريكا كلها، إضافة إلى كونها نقطة انطلاق للقفز إلى فلوريدا بالقوارب. وبهذه الصفة، وصل إليها، في حزيران 1939، ما يقرب من 1100 يهودي أشكنازي على متن ثلاث سفن، أشهرها سفينة سانت لويس. ولكن الولايات المتحدة شكلت، قبل الحرب العالمية الثانية، حاجزاً صارماً ضد يهود أوروبا، ولم ترغب في استقبال هؤلاء “اللاجئين” الذين أرادوا فقط الانتظار في كوبا حتى يتمكنوا من عبور مضيق فلوريدا؛ كما رفضت تقديم المساعدة المالية لركاب سفينة سانت لويس لدفع تكاليف نزولهم مؤقتاً في كوبا، حيث أعيدت الغالبية العظمى منهم إلى بلجيكا. ومنذ ذلك الوقت، كان هناك بعض أبناء الكوبيين من أصل يهودي، وأصبحوا مواطنين أمريكيين يهتفون ضد ما أسموه “المحرقة الكوبية”، مطالبين بالانتقام.

في الواقع، كانت كوبا من أوائل الدول التي رفضت التصويت في الأمم المتحدة لصالح إقامة “دولة إسرائيل”، عام 1947، على الرغم من الضغوط المالية الكبيرة وغيرها، وسرعان ما انسحب الأمر على دول أمريكا اللاتينية الأخرى.

وكانت أعنف جوانب الإمبريالية الأمريكية في الستينيات والثمانينيات قد تم تنفيذها من قبل اليهود من أصل كوبي، من أبناء اللاجئين الأشكناز الذين وجدوا طريقة للاستقرار في كوبا لبضع سنوات قبل أن يصبحوا مواطنين أمريكيين: أوتو رايخ، وزير في عهد بوش الأب، لويس داماتو، مؤلف القانون الذي يسمح بخنق جميع البلدان التي تزعج الإمبراطورية (كوبا، ليبيا، إيران، سورية.. إلخ)، الإرهابي أورلاندو بوش، والأكاديمية إليانا روث ليتينين، الشرسة هي الأخرى، بالإضافة إلى شخصيات غيرها.

هنا، تجدر الإشارة إلى أن قانون هيلمز – بيرتون، الصادر في عام 1996، في عهد بيل كلينتون، والذي جعل من الممكن معاقبة أي شركة أوروبية تأسست في كوبا تمارس نشاطاً تجارياً يشمل ممتلكات عقارية أمريكية صادرتها الثورة الكوبية في العام 1960. وقد تم “تنويم” هذا القانون لمدة عشرين عاماً، ثم أعاد الرئيس ترامب تفعيله في حزيران 2019.

كان الأمريكي الأكثر شهرة، فيما يتعلق بنطاق إمبراطوريته العقارية، هو رجل العصابات اليهودي ماير لانسكي الذي عمل على تطوير وتنشيط النوادي الليلية وتشغيل عصابات الدعارة، والذي نقل إمبراطوريته إلى لاس فيغاس، وقد تمت محاكمته من قبل الولايات المتحدة، ومن ثم لجأ إلى إسرائيل ليعود ثانية إلى الولايات المتحدة، وبعد وفاته قام ورثته بإنشاء متحف له.

من بين الشخصيات اليهودية الأكثر تصميماً على خنق الشعب الكوبي من خلال منع البلاد من الالتفاف على الحصار الذي تم فرضه في العام 1962، والذي تم الإبقاء عليه حتى اليوم، يمكن الاستشهاد بشخصيات يهودية أخرى مصممة أيضاً على سرقة دول أمريكا اللاتينية الأخرى، ولا سيما الأرجنتين، مثل بول سينغر أو شيلدون أديلسون، ملك الكازينوهات، والصديق الشخصي لدونالد ترامب، وهاتان الشخصيتان اختفتا في كانون الثاني 2021.

يمكن تفسير عناد هذه الشخصيات بحقيقة أن معظم المناطق السكنية الكوبية في الخمسينيات كانت مملوكة لأشكناز ما بعد موجة الهجرة الأنفة الذكر، ولكن 95٪ من اليهود غادروا كوبا إلى ميامي في العام 1960، بعد الإصلاح الزراعي الذي وضع حداً للمضاربة العقارية. لكن الثروة العقارية لليهود كانت قديمة في كوبا، لأن مزارعي السكر في كوراساو هم من طوروا المزارع منذ القرن السابع عشر، وصنعوا ثروة البلاد، خاصة بعد طفرة البن التي انتهت حوالي العام 1830. شكّل عمالقة إنتاج السكر مع العبودية الأفريقية، لوبي ضاغط، لفترة طويلة، على الحكومة الإسبانية، لإبطاء إلغاء العبودية والاستقلال السياسي للمستعمرة. وهكذا ولد في فنزويلا أغنى رجل في كوبا ما قبل الثورة، خوليو لوبو، “ملك السكر” في كوبا، وبورتوريكو، وحول العالم، وهو الذي بنى متحف نابليون في هافانا.

بعد ثورة 1959، قطعت كوبا علاقاتها مع إسرائيل. وفي العام 1973، تم القبض على آلان غروس، وهو شخصية يهودية تمت محاكمتها بتهمة التجسس وتعريض الأمن القومي للخطر، في العام 2009، لتورطها في توزيع الهواتف المحمولة على اليهود الكوبيين. وقد حكم على آلان غروس بالسجن 15 عاماً، قبل أن يطلق سراحه بعد خمس سنوات، 2014، مقابل ثلاثة من العملاء الكوبيين “الخمسة” المشهورين الذين حاربوا الإرهاب الأمريكي، وقُبعوا في السجن منذ عام 1998.

 

الخلاصة ودواعي الأمل

في ظل الظروف الراهنة، حيث تتعرض البلاد لحصار أمريكي خانق، وحيث تغزو شبكات “السي أي إيه” مواقع التواصل الاجتماعي – تويتر وفيسبوك – من المنطقي الاعتقاد أنه إذا لم يتم شن هجوم عسكري أمريكي بعد، فذلك لأنه يفتقر إلى حدث الإطلاق. لكن لدى الحكومة الكوبية، التي تخلو تماماً من السذاجة، والمعروفة بتاريخها النضالي الطويل من أجل السيادة الوطنية، والتي تجري مباحثات مع الحكومة الروسية للحصول على مساعدات إنسانية ومالية وعسكرية، أوراق أخرى يمكن أن تلعبها أيضاً لتأخير أو عرقلة التدخل العسكري الأمريكي، الذي ستكون له قيمة رمزية هائلة، دون إغفال المصالح الاستراتيجية المعرضة للخطر، والتي لا تستهين بها روسيا.

وحقيقة، لطالما تحدت كندا العقوبات الأمريكية، وجلبت إلى كوبا تدفقاً ثابتاً من الاستثمار العقاري في مجال السياحة، وموجات هائلة من السياح. ومن المحتمل يعود هذا الاستقلال الدبلوماسي الرائع للكنديين إلى الرئيس ترودو، المشهور بأنه الابن الطبيعي لفيدل كاسترو نفسه، والمولود عام 1971، حيث لعبت والدته في تلك السنوات دوراً مهماً في التضامن مع كوبا.

أما بالنسبة للروابط مع إسبانيا، فقد حافظ فيدل كاسترو دائماً على علاقات مميزة مع الحكومات الإسبانية، بما في ذلك في عهد الجنرال فرانكو، الذي كان من غاليسيا، مثل عائلة كاسترو. وعليه، ستكون المصالح الإسبانية في منافسة مباشرة مع مصالح الولايات المتحدة في حالة التدخل العسكري. وبالنسبة لروسيا والصين، فإنهما لن تقفا مكتوفتي الأيدي، ولن تقتنعان بفكرة “منطقة عازلة” في كوبا على غرار ما حدث في ليبيا، عام 2011.

حل آخر للرأسماليين العازمين على استعادة ما يعتبرونه قوتهم ومكاسبهم التاريخية بـ “الحق الإلهي”، وجعل” الديدان” تدفع ثمن انتقامهم، والذين سيرون أنفسهم بعد ذلك مجردين من قبل من هم أغنى منهم، فقد تداخلت الانقلابات التي قام بها العملاء المحليون؛ لكن في فنزويلا، لم يتمكن غوايدو من طرد مادورو الذي استعاد السيطرة، ويدير الحوار مع المعارضة. وفي بوليفيا، تولى الرئيس أرس، تلميذ إيفو موراليس، زمام الأمور؛ وفي نيكاراغوا، وعلى الرغم من التسليح الهائل للمتمردين في جبال الكونترا، لا يزال الساندينيون هم الذين يحكمون البلاد منذ 30 عاماً. ولكن هاهو العجوز بايدن سعيد بأن يكون قادراً على التلويح بجثة أحد المتظاهرين، والتي سيستخدمها كذريعة لفرض عقوبات مالية جديدة باسم القانون الإنساني.

لقد اعتادت وكالات الاستخبارات الأمريكية على الاستخفاف بقدرة الشعوب على الرد. ولكن أي تدخل أميركي سيكون، في الواقع، أمراً محرجاً من شأنه أن يوقظ الضمائر على الفور. غير أنه يمكن لبايدن أيضاً أن يختار ترك الوضع يتدهور إلى أجل غير مسمى، ويسمح للمغتربين المحليين بلعب لعبة المرشحين للاحتلال العسكري على المدى المتوسط. وهنا يجب عدم نسيان أن مشروع عملية “إعادة الضبط الكبرى” ينطوي على تدمير جميع البلدان التي تعتمد على السياحة، بحجة البيئة. وكما عمل اكبر مستثمر أمريكي ومصاص دماء الشعوب، باول سينغر، مع الأرجنتين، منذ الأزمة المالية عام 2003، من خلال مسألة شراء القروض “الفاسدة” للبلدان النامية بأسعار منخفضة باستخدام “الصناديق الانتهازية”، ثم فرض تبادل “الديون على الأقاليم”؛ وهو ما يتطلب تعاون النخب المالية المحلية.

لسوء الحظ، على مستوى الدعاية، فشلت الحكومة الكوبية في الوقت المناسب في مواجهة الميول غير الوطنية “المستيقظة” السائدة في الولايات المتحدة. ابنة راؤول كاسترو (الأخ بالتبني لفيدل كاسترو)،تقود حملات تلفزيونية حكومية من أجل “التربية الجنسية”، وتحديداً المثليين، على الرغم من أنها ترفض الارتباط بها. الطابور الخامس من دعاة الضم. وتلك هي أرض خصبة لـ “الطابور السادس” الذي حدده ألكسندر دوغين في حاشية الرئيس الروسي. والمثقفون والفنانون، دائماً في طليعة النوّاحين، ليسوا الوحيدين الذين يغريهم هذا الدور. ويركز عالم الراب، بكلماته المليئة بالشجاعة، على الإبداع الشعبي، ولكن أيضاً الغضب. إن الموسيقى هي الدين الحقيقي الذي يربط كل المجتمع الكوبي معاً، ويحتفظ بقدرة هائلة على التعبئة.

يمكن لحركة “حياة السود مهمة”، التي تتهم نفسها أحياناً بأنها خاضعة لسيطرة اليهود اليساريين الأمريكيين (ولكنها أيضاً معرضة لاتهامات متكررة بمعاداة السامية) أن تمارس جاذبية لدى الشباب السود، الذين سيكون من السهل دفعهم إلى أعمال عنف، ما يؤدي إلى دورة من القمع والسخط وتفعيل الضغائن العنصرية القديمة، وكلها ممولة بشكل جيد من الخارج. لكن المخابرات الكوبية أحبطت، بالفعل، العديد من هذه المؤامرات. وفي الوقت الحالي، في الولايات المتحدة، تقوم هذه الحركة بمحاولة تخفيف الحصار الأمريكي المفروض على كوبا، ومعارضة الحظر الأمريكي.

لا يمكن أن يكون للسيادة الكوبية حلفاء في الولايات المتحدة أو في إسرائيل، بدليل الإجراءات التي اتخذها دونالد ترامب لتعزيز الحظر المفروض على كوبا والتي لم تمنح الكوبيين الفرصة لتقدير إجراءاته السيادية؛ ومع ذلك، وبما أن فلوريدا واحدة من الولايات الأكثر ولاءً لشعار “جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى”، فقد تكون هناك نقاط التقاء للمصالحة مع قطاعات معينة من مستعمرة ميامي الكوبية. من ناحية أخرى، كان الرئيس أوباما هو الذي اتخذ خطوات لإنهاء العقوبات، من منطلق انتهاكات إسرائيل لحقوق للشعب الفلسطيني منذ أكثر من ستين عاما، وهي عملية خنق حقيقي

بعد المحاولة الأخيرة لإضرام نيران ثورة ملونة محلية، محكوم عليها بالفشل، يمكن للحكومة الكوبية أن تستلهم من تجربتي سورية وإيران، حيث تمكنت السلطات العليا من بث الثقة في الشعب للمقاومة حتى النصر.