قصص ليديا ديفيس لآلئ تنتظر من يكتشفها
تضم “المجموعة القصصية الكاملة لليديا ديفيس” في طياتها مجموعات القصص القصيرة الاستثنائية الأربع التي كتبتها ديفيس: “رُدّه إلى عناصره”، و”أفنان الاضطراب”، و”صموئيل جونسون مستاء”، و”بلا ذاكرة تقريباً”.
وإن كنت من هواة قراءة القصص القصيرة الممتعة فعليك اقتناء هذا الكتاب، إذ يضمّ مجموعة رائعة من القصص، وهو عبارة عن كتابٌ تعوم في بحاره، وتقلب أمواجها عشوائياً بحثاً عن لآلئ صغيرة غريبة تستمتع بها. وحتى لو لم تكن مهتماً بقراءة قصص ديفيس، تابع القراءة، عسى أن تغيّر رأيك.
معظم قصص ديفيس قصيرة للغاية، وكثير منها عبارة عن فقرة أو فقرتين، وبعضها بطول جملة وحسب، إنها ليست قصصاً بالمعنى التقليدي، لذا لا تبحث عن تطور شامل للشخصية أو عن حبكة كبيرة، وتأتي المتعة في قراءة تلك القصص من الأسلوب والفضول والإدراك والحالة النفسية والتدقيق الشديد على الأشياء الكبيرة والصغيرة. إنها حكايات، خرافات، عبارات منغمة متكررة، ملاحظات، مسرحيات هزلية، دعابات، نوادر، يوميات، تجارب فكرية، حِكم، أنصاف قصائد، وأقوال مأثورة.
على سبيل المثال، تكشف قصة “في بيت محاصر” من مجموعتها الأولى “رُدّه إلى عناصره” الكثير عن منهج ديفيس، وإليك القصة كاملة:
“في بيت محاصر يقطنه رجل وامرأة، ومن حيث يختبئان في المطبخ سمع الرجل والمرأة أصوات انفجارات صغيرة. قالت المرأة: “إنها الرياح”، فقال الرجل “بل الصيادون”. قالت المرأة: “إنه المطر”، فقال الرجل: “بل الجيش”. أرادت المرأة العودة إلى المنزل، لكنها كانت داخل المنزل بالفعل، داخل بيت محاصر في وسط البلاد”.
تبيّن القصة عدداً من الموضوعات والأفكار التي تناولتها ديفيس في أعمالها: إذ أنك ترى بطلين بلا اسمين، تعرفهما باسم “الرجل” و”المرأة”، (أو “الزوج” و”الزوجة” في قصص أخرى) وهما عنصران نائبان مجازيان وفي الوقت نفسه شخصيتان منفردتان، وترى بيئةً عائليةً (أبطالها فردا الأسرة)، وتهديداً مجهولاً، وشعوراً سائداً بالعزلة يوازنه روح الدعابة الساخرة. ويُظهر قصر القصة أيضاً أنها منذ فجر مسيرتها المهنية في النشر، كانت ديفيس تعمل على الوصول إلى شيء مختلف تماماً عن قصص الكاتب الأـمريكي ريموند كارفر التي هيمنت على أدب الثمانينيات.
البيئات المنزلية في هذه المجموعة القصصية –الأماكن التي تسكنها أرواح الأمهات والآباء غالباً- تظهر مراراً وتكراراً في جميع قصص المجموعة. تبدأ مجموعة “بلا ذاكرة تقريباً” بقصة “اللحم وزوجي”، وهي قصة عن زوجة تحاول حمل زوجها على أكل طعام صحي، وهو أمر صعب بالنظر إلى شغفه باللحم البقري. قد تبدو الحكاية مبتذلة تماماً، ولكنها حقيقة تتسم بروح الدعابة، حتى أنها مؤثرة بشكل غريب، والزوجة هي التي تروي القصة، وتختمها بإدراكها أن زوجها يفضّل الطهي بنفسه. وتفوق البصيرة السيناريو العائلي المعين، إذ يبدو أنها قابلة للتطبيق على حياة القارئ.
وقصة “كيف يصيب هو في غالب الأحيان” من المجموعة نفسها، هي عبارة عن فقرة قصيرة يستنتج فيها الراوي أن “هو” يخطئ في غالب الأحيان، “ولكنه يخطئ لظروف مختلفة عن الظروف التي مرت عليه في الواقع، بينما كان [قراره] مناسباً للظروف التي اتضح أنني لم أفهمها”. وتجسد القصة الطريقة التي نضفي فيها على أصغر الجدالات معنىً أكبر، ونمعن النظر فيها، ونربطها بإحساسنا بالهوية، ونرى التحليل نفسه في قصة “النزهة” من المجموعة نفسها، والقصة كاملة:
“فورة غضب على قارعة شارع، ورفضٌ للحديث على أحد الدروب، وصمتٌ في غابات الصنوبر، وصمتٌ عبر جسر السكك الحديدية القديم، ومحاولةُ تودّد داخل المياه، ورفضٌ لإنهاء جدال حول الحجارة المفلطحة، وصرخة غضب على منحدر ترابي شديد الانحدار، وعويل بين الأدغال”.
ربما تتسم جملة ديفيس ببعد النظر، لكنها تضع أيضاً العلاقة في القصة تحت المجهر، وبإمكان القارئ ملء الثغرات من خلفيته الخاصة، فكلنا اختبر هذا الغضب، وهذا الصمت، وهذا الرفض. لقد كنا حاضرين، وهذه القصة حقيقية جرت في الواقع.
إن واقعية قصص ديفيس هي ما يوحّدهم، واعتراف القارئ بواقعيتها يجعلها ممتعة للغاية. خذ قصة “أصدقاء مملون” من مجموعة “صموئيل جونسون مستاء” مثالاً:
“لا نعرف إلا أربعة أشخاص مملين، أما بقية أصدقائنا فنراهم ممتعين، لكن معظم الأصدقاء الذين نجدهم ممتعين يعدّوننا مملين، وأكثرهم إمتاعاً يروننا أكثر الناس إضجاراً. والقلة الموجودة بين بين، وتجمعنا معهم متعة متبادلة، لا نعول عليهم، ففي أي لحظة قد يصبحون ممتعين للغاية في أنظارنا، أو نصبح نحن ممتعين في أنظارهم”.
تخترق معالجة ديفيس لمسألة الصداقة المظاهر الكاذبة باستمرار، فتكشف طبائعنا التنافسية، وتمجّد في الوقت نفسه المتع التي نستمدها من الآخرين.
لا تركز كل قصص ديفيس على العائلة والأصدقاء، إذ يدور كثير منها عن الأوساط الأكاديمية، كمتاعب الترجمة، ومخاطر التدريس.. وهلم جرا. وإن لم يستطع جميع القراء إيجاد صلة مع القصص، فليس هناك ما يدعو إلى القلق، فجزء من متع الكتاب هو تنوعه، فإن لم تجذبك إحدى القصص على الفور، انتقل إلى التالية وما بعدها، وربما تقع على إحدى السير الذاتية التاريخية الخيالية للمجموعة، مثل “كافكا يطهو العشاء” أو “ماري كوري، امرأة جليلة للغاية”. وقصص ديفيس التاريخية ساحرة، إذ تبدو أنها واقعية وبعيدة الاحتمال وحقيقية ومنافية للعقل، جميعها في آن واحد.
إعداد: علاء العطار