التراث الأدبي الفراتي بين الأصالة والمعاصرة
دير الزور- خالد جمعة
يعدّ التراث بصيغتيه المادية واللامادية هوية المجتمع وخزان معرفته الثقافية والفكرية وهو مصدر اعتزاز أبنائه يتوارث جيلاً بعد جيل، فالتراث له أهمية بالغة التأثير في تفاصيل الحياة الاجتماعية والمعرفية التي تتكوّن منها صيغة المجتمع وفي الحفاظ على قوانينه، فهي مبنية في الذاكرة الثقافية لكل فردٍ في المجتمع، وبالتالي تعمل على ضبط المجتمع أخلاقياً.
وقد عملت لجان توثيق التراث والكتّاب والمهتمون في دير الزور على جمع اللامادي منه حتى يكون حاضراً دائماً في حياة المجتمع تستقي منه الأجيال ويكون بالوقت ذاته كنزاً معرفياً وثقافياً واجتماعياً يُعتز به، ونستطيع أن نقول إن المكتبة الفراتية التراثية تضمّ بين رفوفها الكثير من التراث الأدبي إذ أنه هو الشيء الملموس والموثق الذي نستطيع تناوله في أي وقت. فقد اجتهد أدباء دير الزور شعراً ونثراً وبحثاً ودراسة وتوثيقاً في ناحية الطباعة، وخاصة في فترة الثمانينيات وما بعد، وقد احتوت تلك المطبوعات تفاصيل الحياة الديرية وخاصة حبهم للفرات.
وتشتمل المكتبة الأدبية الفراتية على خزائن قيّمة في الأدب والفكر، وهي نتاجات كتّاب وأدباء كانت لهم بصمات في الحياة الأدبية السورية والعربية نحن بأمسّ الحاجة اليوم للاطلاع عليها ومعرفة عمق الأدب وبيان القيمة النقدية لتلك الأعمال، إذ أنها لا تقلّ شأناً في قيمتها الأدبية عن أي أدب آخر، فلذلك كان من الضروري أن نستقرئ تراثنا الأدبي ونستفيد منه كتجربة ناجحة استطاعت أن تكون مدماكاً صلباً وثق وأرّخ لمرحلة مهمّة في حياة مدينتنا، وما أعمال عبد القادر عياش وجمعه للتراث إلا دليلاً واضحاً على تجذّر الأدب في مدينة الفرات ومن سبقه وتلاه من كتّاب وأدباء ومفكرين وباحثين، وتجسيداً واقعياً للحركة الثقافية الأدبية في ذلك والتي نحن بصدد الحديث عنها كتراث ننهل من معينه.
ولإثبات الهوية الديرية الفراتية وربط الحاضر بالماضي لابد من الحفاظ على التراث الأدبي الذي ينهل منه الأدباء والشعراء والمفكرون والباحثون عن المعرفة والثقافة لتعود وتثبت ذاتها على خارطة الأدب فتصبح مع تتالي السنين تراثاً. ولعلّ التوثيق لمجمل التكوين الثقافي كان حاضراً منذ بدايات القرن الماضي، حيث أصدرت مجلة ثقافية تحمل اسم “جول” عُنيت بالشأن الثقافي وكانت تطبع في حلب آنذاك ومن ثمَّ أصدر عبد القادر عياش “صوت الفرات” عام 1945 كانت تطبع في دير الزور، وعُنيت آنذاك بجمع الموروث الشعبي والأدبي ولا تزال أعدادها مرجعاً لكثير من الباحثين عن مفردات التراث الفراتي، لتتوالى بعدها الإصدارات الدورية وغير الدورية.
ولم تقتصر مسألة توظيف التراث الأدبي الفراتي على ما يتعلق بها من إشكالية الأصالة والمعاصرة، بل أخذ الأدباء باستثمار التراث في كثير من الأعمال الأدبية رغبة منهم في إنتاج تجارب فنية جديدة تمزج بين الأصالة والمعاصرة.
إن الأدب الفراتي له طابعه الخاص في تكوينه انطلاقاً من حب الأدباء للفرات الذي استهوى جلّ تفكيرهم لتتطابق رؤاهم بين وحي التجربة ووحي فطرتهم، حيث واكب الأدب الفراتي بأجناسه المتعدّدة التطور والحداثة في بنية النص الأدبي شعراً وقصة ودراسة وأبحاثاً، وخاصة في فترة الثمانينيات وما بعد ذلك، حيث إن أدباء الفرات اطلعوا على النتاج الأدبي العربي وجديده، فكان لابد من التجديد والتحديث بطابع فراتي، مستمدين الأصالة ممن سبقهم في هذا المجال ومن اطلاعهم على الحداثة ليكوّنوا بالتالي جسر تواصل بين الماضي والحاضر.
ولعلّ الأزمة بسنواتها المثقلة أضافت جديداً إلى مفردات الأدب الفراتي بما اكتسبته من أدباء جدد أثبتوا قدرتهم في ساحات الأدب المختلفة، فكانت لهم الصدارة ورفدوا الأدب الفراتي المعاصر بكل جديد مع وجود الأدباء المخضرمين على الساحة، كتبوا ووثقوا كل ما مرّ بهم من مفردات التراث المادي واللامادي.