تجليات في رواية “شوارع الغضب”
في رواية “شوارع الغضب” للكاتب أمين الساطي تتعرف على الكثير من أسرار وحركات أفراد أو جماعات تعيش معهم ويعيشون معك ولا تدري عنهم شيئاً سوى أنهم وقعوا فجأة، أو صاروا حديث من حولهم، أو أكثر من ذلك ربما أنهم صاروا خبراً يتصدّر نشرات الأخبار في وسائل الإعلام، أو وسائل التواصل الاجتماعي، فتدرك عندها أنك في عالم واضح، ولكن هناك عالم ظل.
إلى هناك إلى عالم الأسرار يأخذك الروائي الساطي في رحلة معرفية وجولات ماتعة لرجال ونساء دخلوا عالم الجريمة تحت تأثير سطوة المال وشهواته وغريزة التملك، وكيف يجمعون بين أقصى درجات الخير وأقصى درجات الشر، في لبنان جغرافية الرواية ومسرح الجرائم التي تتحدث عنها الرواية، فالسارد الذي لم يتخلَ عن ضمير المتكلم وأبو أيمن وأديلي وأليس وسعاد وناديا يعبرون عالم الجريمة بكل ما فيها من محرمات ومخاطر، وفي الوقت نفسه ينزلون إلى ساحة رياض الصلح ويشاركون في المظاهرات التي تصاعدت حتى وصفت بأنها ثورة.
في هذه الرواية وجه لم نكن نعرفه يقف وراء استمرار ثورة المحتجين على الوضعين الاقتصادي الخانق والسياسي البشع الذي همّه المال وحده.. وجه الذين حولوا الهدف المشروع بآلياته المشروعة إلى حركة تمرد وعصيان تسعى لتحطيم كل شيء من حولها، فقد غدت ساحة رياض الصلح ساحة اتجار بحبوب الهلوسة والدولار الأسود وعقد الصفقات والبحث عن أدوات قادرة على القتل حين يستلزم الأمر.
وغدا البقاع اللبناني مصانع لإنتاج الكبتاجون وتهريبه إلى مصر وفق الرواية، بعدما أقرّ مجلس النواب السماح بزراعة الحشيشة، ولكن بعض المتضررين من هذا السماح مازالوا يعطلون تنفيذ المضمون، لذلك يطلعك السارد على واحدة من أكبر عمليات تهريب الحشيشة من البقاع إلى طرابلس والتي احتاجت إلى أربعة قتلى على الأقل من شباب الغجر ومثلهم من المهربين الكبار في عمليات انتقامية ثأرية بحماية طبقة سياسية يمكن وصفها بأكثر من فاسدة ومفسدة حتى يمكن رميها بالخيانة لتدمير لبنان، إن كان ينقصه الدمار.
هذا في مضمون الرواية التي لم تتناس الحقد الطبقي الذي ولده التفاوت المذهل بين من يملكون كل شيء وبيدهم القرار والسلطة والجاه وما يقدمه لهم الإعلام من بريق، وبين من يبحثون عن قوت يومهم، أما في الشكل فقد ظهرت في “شوارع الغضب” للساطي تجليات عدة أهمها عندي في هذه القراءة الانطباعية تجلي عنصر التشويق في البناء الفني للرواية، فمن الصفحة الأولى وربما أسطرها الأولى ترى نفسك مشدوداً إلى قراءتها ومعرفة ما تتضمنه من مفاجآت غريبة عجيبة، تعيش لحظاتها المتصاعدة دون أن تنحاز إلى شخوصها.
أما التجلي الثاني فهو في هذه التفاصيل عن تعاطي المخدرات وآثارها على العقل والجسد معاً، وعمليات تهريبها وما يرافقها من اعتراضات ومعارك وما تخلفه من قتلى وما يحصل عليه المهرب المنفذ من أجر زهيد.
ويشدك كثيراً هذا التجلي الخطير الذي برع فيه الكاتب بفضح الدولار وعمليات تداوله وتزويره وطباعته، حتى تكاد تخشى على نفسك من أن تقع ضحية لهؤلاء الأشرار.
ويكاد الكاتب أن يكون من أبرع الذين كتبوا عن الحب والجنس والذكورة والأنوثة دون أن يفرد في روايته مشاهد جنسية مثيرة لشد القارئ، ربما لأن عالم الجريمة بحدّ ذاته عالم يبعث على التشويق، فلا يحتاج إلى مكملات لا تضيف جديداً أو جميلاً، ومردّ ذلك عندي أن الكاتب على سوية عالية من الوعي والتجربة والخبرات المكتسبة في الحياة، ولديه وعي طبقي مكنه من فضح دور المال في حياة المجتمعات الاستهلاكية.
تكاد رواية “شوارع الغضب” أن تكون سباقة في تدوينها ليوميات شخوص شاركوا في ثورة الجياع لتغدو وثيقة يعتد بها لما هدفت إليه.
يبقى عليّ أن أدون إعجابي بلغة الرواية التي نأت بنفسها عن تعقيدات الضمائر وعائديتها، وقد نجحت في وضع خاتمة غير متوقعة لحدث يقترب كثيراً من الهلوسة، حيث يصحو السارد في المستشفى ليجد حبيبته حاضرة في انحياز واضح لأجمل قيمة ومحرك للنفس الإنسانية.
رياض طبرة