سلمى الحفار الكزبري أديبة عالمية بنكهة دمشقية
“البعث الأسبوعية” ــ سلوى عباس
تقف الأديبة الراحلة سلمى الحفار الكزبري في طليعة الأديبات السوريات على مدى القرن العشرين بما قدمته من تنوع في النتاج الإبداعي وبلغات مختلفة طوال نصف قرن، إذ تعتبر الكتابة تجربة تمنحها الكثير من الغبطة والسرور، لكنها بالمقابل ترهقها بسبب انسجامها مع شخصياتها وتغلغلها في أعماقها، والحديث عنها بوصفها مثقفة عاصرت أهم أحداث العرب في العصر الحديث. ويأخذ تمثيلها للعلاقة الإشكالية القائمة على مر العصور بين الشرق والغرب منحى مختلفاً غير معهود، فقد كانت فاعلة في كلتا الثقافتين، وحاولت بناء علاقة تفاعلية وتكاملية قائمة على الندية والأثر المتبادل، ولم تتأثر بتلك السطوة الجارفة للغرب، كما لم تعد إنتاج الهيمنة الثقافية الغربية مع ثقافتها العربية، كما يحدث عند كثير من المثقفين الذين عاشوا في الغرب.
وقد لا تقدم الكزبري تصوراً معقداً للعلاقة بين الشرق والغرب ذا أساس فكري عميق لكنها تصر دائماً على أن تقدم نموذجاً يطمح إلى إثبات الذات أمام غرب ملتبس وواقع تحت سلطة الإعلام مستنداً إلى حس المرأة العالي وذوقها الرفيع ومتابعتها أدق التفاصيل وإنسانيتها فمثلت بحق المثقف الملتزم في أصعب ظرف الواقع العربي، إذ عملت جاهدة على بث الأمل والوعي في الوطن العربي، ودعت إلى التغيير واستثمار التاريخ والتراث لبناء إنسان عربي أصيل واعٍ قادر على إعادة العرب إلى فضاء العالمية من جديد، كما اهتمت بوضع المرأة وواقعها وبالمجتمع والنهضة، لذلك ساهمت بالعمل الاجتماعي مبكراً وقامت بتأسيس جمعية المبرة النسائية، عام 1945، وهي جمعية أخذت على عاتقها رعاية الفتيات الجانحات وحضانة اللقطاء، وهي عضو في الوفد السوري لدى لجنة شؤون المرأة المنبثقة عن المجلس الثقافي الاقتصادي.
نشرت الكزبري أول مقالة لها في مجلة الأحد الدمشقية، أما أول كتاباتها الشعرية فكانت بالفرنسية عام 1940 ونشرتها في جريدة “أصداء المدينة” وكانت حينها في السادسة عشرة، وعن عشقها للكتابة تقول: “الكتابة كانت ملجأي وساحة تعبيري ضد التقاليد والتحكم بالمرأة وسلب حقوقها”؛ وقد أفادت من الجو المعرفي الذي نشأت فيه، كما أفادت من أسفار ومرافقة زوجها السفير والأستاذ الجامعي، د. نادر الكزبري، إلى الأرجنتين وإسبانيا وتشيلي فتعرفت على الشعوب وحضاراتها وعاداتها وتقاليدها وأضافت إلى اللغات التي تعلمتها، إضافة للغتها الأم، اللغة الإسبانية، ما انعكس على إبداعاتها وكتاباتها. ومن يتتبع حياتها الأدبية يقف على الدور المميز الذي قامت به فكانت بحق سفيرة الثقافة السورية تعرّف بحضارتها وتاريخها وشعرائها ولاسيما في مجال الأندلسيات، واستطاعت التوفيق بين عملها كأديبة وربة منزل وصاحبة دار للأزياء فكانت “بوكيه” أول دار للأزياء النسائية في دمشق.
وضعت سلمى الحفار الكزبري أكثر من عشرين كتاباً متنوعاً بين الأدب والنقد والدراسات، منها كتاب بعنوان “نساء متفوقات”، وهذه العناية بالإبداع النسائي تقوم على قناعة راسخة لدى الأديبة الكزبري التي تحدثت عن العوامل التي دفعتها لذلك قائلة: “الدافع الأول لاهتمامي بكتابة سير النساء المتفوقات في مختلف الميادين ونشرها منذ سنة 1960 هو إعطاء أمثلة حية واقعية للفتاة العربية المتوثبة للنهوض عن رائدات سبقنها في ولوج ميادين العمل النافع وخدمة المجتمع والإنسانية. هذا هو السبب الذي جعلني أهدي تلك السير إلى الفتيات العربيات وليس لأنني أعتقد بأن النساء أكثر تميزاً من الرجال”.
كما تؤكد على ضرورة تفهم الرجل لدور المرأة ومساعدتها في القيام به إذ تقول: “لا يمكن لأي امرأة في مجتمعنا أن تصل إلى مكانة مرموقة ما لم يكن وراءها أو معها رجل متفهم وداعم لها، لأن هذا الدعم يشجعها ويعطيها الفرصة في التعبير عن ذاتها دون أن تشن حرباً داخلية في منزلها الأبوي أو الزوجي. وأنا بحكم تجربتي أقول لولا دعم زوجي ورأيه بضرورة نشاط المرأة الفكري ما كنت لأقوم بكل النتاج الأدبي والفكري الذي قدمته، فهو من النوع الصادق الذي أعطى وعوداً نفذها”.
كان كتابها “الشعلة الزرقاء” مرجعاً مهماً عن علاقة جبران خليل جبران ومي زيادة عبر رسائلهما المتبادلة. تقول سلمى الكزبري عنه: “أعتقد أن كل كاتب يقدم على عمل جديد يتهيبه ويعقد عليه الآمال في آن معاً، هذا هو شعوري منذ بدأت التخطيط لدراستي عن مي زيادة وجمع الوثائق الضرورية للسير والبحث عن الوثائق المفقودة والمخطوطات الجديدة والمزيد من المعلومات وتدوين بعض فصول الكتاب فارضة على نفسي منهجاً جديداً عبر تقديم السيرة من خلال النصوص الأدبية التي لدينا بقلم مي ما دام الأمر ممكناً، وعندما يتعذر الجأ إلى السرد التقليدي والتحليل والاستنتاج”.
وتضيف: “إني أدرك أيضاً المسؤولية التي ألقيت على عاتقي في هذا العمل والمزالق التي تعترض سبيلي لدى الإبحار في خضمه، وقد أقبلت عليه بحماسة المغامرين وتشوقهم إلى إصابة النجاح، لأني أحمل لمي زيادة ولكل أديب وشاعر ناضل وضحى وأعطى بإخلاص، الحب في أسمى معانيه والتقدير في أبعد مراميه”. والجديد الذي عثرت عليه الكزبري، ولم يكن نشر بعد، هو مجموعة رسائل تبادلتها مي مع كبار الأعلام من معاصريها، بلغ عددها ما يزيد على سبعين رسالة، تتراوح تواريخها بين سنة 1915 وسنة 1940، ومخطوطة بقلم الأديب أمين الريحاني يروي فيها قصة مي المفجعة. ومن الجديد الذي حصلت عليه أيضاً مجموعة من الأحاديث أجرتها مع أشخاص عرفوا مي جيداً من أقرباء لها وأصدقاء في مختلف البلدان العربية، إلى جانب مجموعة الوثائق والرسائل التي اعتبرتها ذات أثر كبير في جعل كتابها عنها أكثر شمولاً وإحاطة بحياتها وآثارها وعصرها.
أصدرت سلمى مجموعة قصائد بالفرنسية بعنوان “نفحات الأمس” و”الوردة المنفردة” وغيرها، وتبدو متأثرة بشعراء القرن التاسع عشر الفرنسيين خلال وجودها تلميذة في معهد الفرنسسيكان، وقصائد وجدانية وطنية أصلها إتقانها للغة الفرنسية، وقد وصف شعرها بأنه نوع من الموسيقى الشفافة العذبة، أما هي فتقول: “أحببت الشعر الفرنسي منذ بداية عهدي بمعرفته لعدة أسباب منها سهولة بيانه وعذوبة ألفاظه ورقة موسيقاه التي تنبعث في جرس اللغة ذاتها”.
أيضاً شُغفت بالموسيقا الكلاسيكية وتعلمت العزف على البيانو منذ طفولتها عند الراهبات أولاً، ثم على يدي الأستاذ بيلنغ الروسي، كما أولعت بالرياضة ولا سيما رياضة التنس، والسباحة والتصوير الضوئي؛ وتعرفت خلال أسفارها الكثيرة إلى أوروبا والأمريكيتين والهند وإيران على مشاهير الأدباء والشعراء، وتبادلت معهم الرسائل، ونالت جائزة الملك فيصل العالمية للأدب العربي عام 1995، وقد جاءت هذه الجائزة بمثابة تكريس لها كأديبة مبدعة في الساحة العربية، كما فازت بجائزة البحر الأبيض المتوسط الأدبية من جامعة بالرمو في صقلية عام 1980، ووسام “شريط السيدة” من إسبانيا عام 1965.