دراساتصحيفة البعث

هل اكتملت فصول الاستلام والتسليم؟

طلال ياسر الزعبي

بهذا المشهد الهزلي إلى حدّ ما اكتملت فصول المسرحية الأمريكية في أفغانستان، حيث كان العالم أجمع يراقب بصمت سقوط الولايات الأفغانية واحدة تلو الأخرى بيد طالبان، دون أن يعلّق أحد على تساقط هذه الولايات كأحجار الدومينو.

وبالفعل، جسّد هذا المشهد حقيقة التجربة الأمريكية في هذا البلد، على حدّ قول المتحدّثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، التي عدّت الصراع القائم في أفغانستان الآن صراعاً بين قوّتين تمّت صناعتهما أمريكياً، أو هما “نتيجة لعملية التفكير الأمريكية” على حدّ قولها.

وقبل ذلك، عبّر أكثر من مسؤول روسي رفيع عن استغرابه من الانسحاب الأمريكي المتسرّع من أفغانستان بعد حوالي عشرين عاماً من احتلاله، بزعم مكافحة الإرهاب، على خلفية أحداث 11 أيلول 2001، المثيرة للريبة بحدّ ذاتها، والتي وصفها المسؤولون الروس في حينها بأنها ذريعة لدخول هذا البلد وتهديد الأمن القومي لجميع الدول المجاورة، فما هو السيناريو الذي تبحث عنه واشنطن من وراء ذلك كله؟ وهل اكتملت فصول المسرحية الهوليودية الأمريكية هنا، أم أن هناك المزيد من الفصول التي سيكون العالم أجمع متفرّجاً عليها؟

وإذا عدنا إلى البحث في طبيعة الجهات الأفغانية التي كانت تسيطر على المشهد في أفغانستان حتى وقت قريب، نجد أن الرئيس الأفغاني أشرف غني تخرّج من الجامعة الأمريكية في بيروت، ثم انتقل بعدها للحصول على الماجستير والدكتوراه من جامعة كولومبيا الأمريكية، بمنحة دراسية أمريكية، إلى جانب زلماي خليل زاد، السفير الأمريكي السابق في أفغانستان ذي الأصول البشتونية الأفغانية وعرّاب المفاوضات التي جرت في الدوحة، ثم عمل غني مدرساً في جامعة كاليفورنيا، وبعدها في جامعة جونز هوبكنز الأمريكية، وعمل مع المنظمات الدولية في واشنطن، وكان فوزه في الانتخابات الرئاسية في أفغانستان مثيراً للجدل بعد جولة انتخابات أخرى مع المرشح الأول آنذاك عبد الله عبد الله، وبعد توليه الرئاسة بيومين وقع الاتفاقية الأمنية مع الولايات المتحدة الأمريكية التي كان الرئيس الأفغاني السابق حامد كرزاي يرفض توقيعها، وقد شرّعت هذه الاتفاقية الوجود الأمريكي في أفغانستان.

وبعدها نسجت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية “سي آي إيه” شبكة علاقات مع جميع الجهات الفاعلة في هذا البلد، وانتعشت خلال وجودها تجارة المخدرات بشكل كبير، وخاصة مع حركة طالبان التي كانت تسيطر عموماً على الجبال في أفغانستان، ولم يحدث طوال فترة الاحتلال الأمريكي أن اصطدم الطرفان بشكل عنيف نتج عنه خسارة مناطق، أو تغيّر في مناطق النفوذ، الأمر الذي يثير كثيراً من التساؤلات حول الطريقة الدراماتيكية التي تمكّنت فيها طالبان من السيطرة على الولايات الأفغانية المترامية الأطراف وصولاً إلى إسقاط العاصمة كابل في زمن قياسي أحدث مفاجأة للعالم، ودفع بالكثير من التساؤلات إلى السطح حول الدور الذي لعبته القوات الأمريكية في هذا البلد خلال عشرين عاماً من الاحتلال.

وضمن هذه المعطيات، يستطيع المراقب لما جرى أن يستغرب وجود مسلحي طالبان في الشوارع المؤدية إلى مطار كابل على صعيد واحد مع القوات الأمريكية المنسحبة، حيث اختلط مشهد عربات الهمفي الأمريكية مع نظيرتها التي زحفت بها طالبان إلى العاصمة دون أي دور يذكر للطيران الأمريكي في منع مسلحي طالبان من دخول العاصمة، على الأقل دون حدوث تزامن بين الأمرين، وذلك في مشهد يؤكد أن ما جرى، رغم كل محاولات التغطية الأمريكية، لا يعدو كونه عملية استلام وتسليم منظّمة تمّت بين الجانبين، إذ لا يُعقل اختفاء الجيش الأفغاني، الذي ادّعت واشنطن تدريبه والإنفاق عليه طوال فترة احتلالها لهذا البلد، من الواجهة بشكل فجائي يوحي باندماجه مع القوات الغازية، كما لا يُعقل أيضاً الغياب المريب لعناصر “داعش” الذين قامت القوات الأمريكية بنقلهم مؤخراً إلى أفغانستان، الأمر الذي يؤكد أن كل الجماعات المسلحة العاملة تحت كنف الاستخبارات الأمريكية يمكن أن تتغيّر مسمّياتها وفقاً لتغيّر الظروف، أو وفقاً للتوجّه الأمريكي المرحلي.

ويبقى الدليل الأكبر على أن ما جرى في أفغانستان مؤخراً ليس حالة طبيعية، هو أن جميع التحليلات تؤكد أن الانسحاب الأمريكي المفاجئ كان هو السبب الرئيسي لسيطرة طالبان على البلاد، أي أن الوجود الأمريكي كان مانعاً لسيطرة طالبان على السلطة باتفاق معها أو من دون اتفاق.