مأساة رجل محترم
محمد الحفري
في نظرتنا لرواية “مأساة رجل محترم” لمؤلفها محمد الطاهر نرى أنه قد مكر مكر المحترفين الذين يلعبون بطريقة صحيحة، فهذا “الرجل الذي يتحدّث عن مأساته ليس محترماً، ولا يمتّ لتلك الصفة بصلة، بل هو سوقي ومن الأوباش الذين يعرفون بأنهم من أرذل الناس، وإذا كان للحقارة من قمة كما يقولون فهو في أعلى تلك القمة”.
يبدأ الروائي نصه بالقول “موج يهدأ، وموج يثور، وامرأة محطّمة، تستسلم لأحلام مغتصبة. وفارس يسابق الليل بحصانه وهو يغني: “نازاده يا خمرتي، ويا فراش متعتي، إني قادم إليكِ، فتعطري وارتدي ثوبك الأحمر، إني قادم فاملئي الكأس، واستعدي كما يفعل الجنود أمامي”.
يعيده صوت “شهنار” إلى ذاته الهائمة، وهو يشدّ لجام حصانه الذي يلقبه بفرس الليل.
ومن خلال هذه البداية، والكلمات القليلة نكتشف أسماء أبطال الرواية “شهنار، زينو، وحصانه فرس الليل” هذا البطل عسكري، فقد قال الروائي على لسانه: “استعدي كما يفعل الجنود أمامي”، ومن ثم فإن كلمات الأغنية تدفعنا لنسأل من نازاده هذه؟.
“شهنار” تركت زوجها وولديها لتهرب مع “زينو” ذلك المهرب والضابط التركي المحكوم عليه بالإعدام، ظناً منها أنها تتخلص من الظلم الواقع عليها من قبل زوجها، ولكنها هربت من نار إلى سعير، أو من “الدلف إلى تحت المزراب” – كما يقولون – ولم تحصد بفعلتها سوى الحسرة والندامة، فهذا الرجل الذي اختارته ليس سوى مجرم، قتل “نازاده” فتاة الليل التي كان يعتقد أن عليها أن تحبه وحده، وقد غضب منها لأنه رآها مع قائده الأعلى في الجيش التركي، كما قتل غيرها.
تتابع الرواية سردها عبر مقاطع حملت العناوين الداخلية التالية “أشباح السنين، سفر بلا عودة، الطريق إلى جهنم، المتمردان، الوسمز، ليلة طويلة، ثمار الخطايا، شاطئ الصحراء، حلم يأكله النسيان، طريق الحمام، أحلام مضاءة، دندنة الآلام، الأيام الصعبة، أحلام طفولة، زهرة تل الحمام، خوف يسمى الحب، معاً في الدوامة، قلوب ممزقة، أحلام متناثرة، صدى الأمل، الرحلة الأخيرة”، وأنني إذ استعرض هذه العناوين التي بلغت إحدى وعشرين عنواناً، فذلك لأدلل بها على رشاقة السرد عند الكاتب محمد الطاهر، فالرواية من الحجم المتوسط، وهذا التقسيم يساعد على متابعة قراءتها وفهم مضمونها من دون ملل.
من ناحية أخرى فإن كل عنوان قد حوى أفكاراً جديدة وأحداثاً تنضمّ إلى ما قبلها تساهم في تنامي الحدث، وجعله أكثر رشاقة لتثير في أنفسنا ذلك الشوق، وتلك اللهفة لمتابعة الرواية. وبالتالي سنسأل دائماً ثم ماذا؟ ولنكتشف أننا أمام نصّ لاهث، يحتاج منا أن نلهث معه كي نتابع حكايته.
“زينو أو صخر” كما أطلق على نفسه حين دخل الأراضي السورية وذلك لغاية التمويه والمساعدة في الاختباء يعود إلى المكان الذي اختطف منه “شهنار” التي صار اسمها “الوسمز” للغاية ذاتها، ليخرج من المكان الذي كان يخفي فيه فرس الليل صرته أو كنزه المدفون، ويهرب من الجنود الذين لاحقوه، ويلجأ إلى مغارة يعرفها منذ أيام زمان، حيث يبيت هناك. وفي اليوم التالي يموت عند بابها ظناً من الجنود أنه من مناوئي السلطة التركية، حمل الجنود جثة صخر إلى قائدهم الذي نطق بنبرته العسكرية: “هل هو من المطلوبين؟” وعندما يكشف عن وجهه ويتعرف إليه يصرخ: “من أخي زينو، يا أوغاد ماذا فعلتم؟”، ثم يرتمي عليه ويبكي. في اليوم التالي بدأت مراسم التشييع لشقيق القائد “بوزان” الذي هجر البلاد منذ خمس وعشرين سنة، بينما ظلت زوجه “الوسمز” ترقب كل يوم غروب الشمس خلف التلال البعيدة.
الرواية امتدت على مساحة زمنية طويلة كما امتدت على مساحات مكانية شاسعة، فقد انتقل أبطالها إلى أمكنة كثيرة داخل الأراضي السورية، بدءاً من الأراضي التركية وصولاً إلى “كسرة عفنان” بلدة الروائي المحاذية لمدينة الرقة، وهناك على ما نجزم تعرف الكاتب على قصة عائلة “زينو أو صخر” مع زوجته “شهنار” أو “الوسمز”، أما كيف ارتقى ببنائه ليكون شامخاً بهذه الطريقة، فتلك مخيلته الإبداعية الخلاقة التي سخر فيها ملكاته وقدراته، ليتمّ عمله هذا بكل براعة وجمال، وقد عرفت من خلال قراءتي لأعمال الكاتب الأخرى أنه يشتغل بهذه الطريقة، والذين كتب عنهم تربطه بهم صلات ما.
نريد القول إن هناك شخصيات كثيرة لم نتحدث عنها واقتصر الأمر على البطل وزوجه، كما أن هناك أمكنة وأحداثاً لم نتطرق لها تاركين ذلك ليتحدث عنها من سيقرأ هذه الرواية لاحقاً.
قبل الختام نؤكد على أمرين: أولهما أن الرواية موفقة في أغلب مقاطعها، وإن كانت النهاية قاسية، فهي أقل من قسوة بطلها ولؤمه وخسته، وقد تجسّد ذلك في تعامله المتوحش وغير الإنساني مع الناس الذين وضعوه في قلوبهم ومنهم زوجه “الوسمز” التي غامرت وتركت كل شيء من أجله، حيث عاملها باحتقار وكان يخونها مع تلك السمراء، وعندما مرضت تركها تصارع أوجاعها، كان قاسياً مع أبنائه، ولعلّ أشد وأبشع ما فعله هو قتله لحصانه فرس الليل الذي رافقه على مدار سنوات طويلة.
الأمر الثاني الذي نؤكد عليه هو الإقناع الذي يعتبر هماً من هموم الرواية وكاتبها، ونحن نعتقد أن الروائي قد نجح في هذا البند، وإلا لماذا تولد هذا الكره الفظيع “لزينو” بطل الرواية في قلب من قرأها؟.