التنصت الشامل
ناظم مهنا
يبدو العالم اليوم، في ظلّ غياب البطولة، واقعاً بين فاعليتين عدوانيتين، تفعلان فعلهما في الحياة اليومية للبشر، يمكن تمثلهما رمزياً بطبائع الذئاب والفئران! التجسّس والحرب، الوحشية والخسة، أحياناً يعملان معاً، وأحياناً ينكفئ طرف ليبرز الطرف الآخر، وهما لا يتساويان في الخطورة مطلقاً، ولكنهما يشتركان بالعدوانية، التي تمارسهما الولايات المتحدة ببراعة وتمرَّس، منذ قررت التمدّد خارج حدودها وعملها كأمبراطورية ورثت بريطانيا، وأضفت على هذا الإرث من نكهتها الخاصة! منذ تلك الفترة تمارس أمريكا الحرب والتجسّس على العالم، وتحت شعارات كاذبة، كنشر قيم الحرية في العالم! فأمريكا وضعت لنفسها رسالة “سامية” لن تتورّع عن استخدام كل الوسائل والذرائع والحروب لتأكيدها!. أما عن التجسّس فقد فجّر صاحب موقع “وكليكس” جوليان أوسانج فضيحة التجسس الشامل الأمريكي على العالم، وانشغل العالم في تلك التسريبات التي تدفقت عليه، وكانت من الخطورة إلى درجة فقدت فيها مركزية تأثيرها، وما كانت لتتوقف لولا الأحداث الجسام التي شهدها العالم العربي، حتى أن البعض اعتقد بأن لهذه الفضائح دوراً فيما عُرف بـ”الربيع العربي”، ولم تكد تخفت مسألة وكيليكس حتى خرج الذئب من جحره معلناً حربه على سورية التي أرادها حرباً عالمية، ثم خرج شخص آخر يُدعى “أدوارد سنودن” موظف الاستخبارات في مكتب الأمن القومي الأمريكي، ليهرب أسرار الدولة الأمريكية، وليكشف للعالم أن أمريكا تتجسّس على سياسييه، على الرؤساء والرئيسات، الحلفاء والخصوم!.. إنه التجسّس الشامل تمارسه القوة الإمبراطورية على العالم، من خلال الأقمار الصناعية وأجهزة الاتصالات، دون مراعاة أية خصوصية فردية أو جماعية، رسمية أو شخصية، وكأنها تمارس نوعاً من اللعب المسلّي، وقد جعلت كل فرد في العالم، مهما صغر أو كبر شأنه يحسُّ أنه مراقب بكل تحركاته في منزله أو في عمله أو في كل أوقاته، وأن الرئيس الأمريكي وزوجته وموظفيه يمكنهم أن يقضوا عطلة نهاية الأسبوع في مشاهدة ما يفعله المشاهير في العالم والتندر عليهم، ولا يحتاجون لمتابعة الأفلام التلفزيونية أو أي نشاطات ترفيهية، فكلها لا تشبع النهم الأمريكي في استنشاق روائح الفضائح، والفضول في كشف المزيد من الأسرار. ولكن، هل هذا مجرد مزاح ولعب ومشاغبة على الأصدقاء؟! أم هو آلية من آليات الهيمنة غير الأخلاقية وغير القانونية على البشر كلهم؟!. أعتقد أن الهدفين معاً يمكن أن يجعلا الأمريكي يفعل ذلك دون أن يبالي بمشاعر أحد، وقد عبّرت رئيسة الأرجنتين السابقة، والمستشارة الألمانية عن استيائهما من أوباما وشغفه في التجسّس عليهن في أدق التفاصيل! وكأن الأمريكي يقول: من شاء فليغضب أو يضرب رأسه بالجدار أو فليسكت قانعاً نفسه أن من حق الدول أن تتجسّس لمصلحة أمنها القومي. وإذا أرادت أمريكا يمكنها أن تقول إنها تتنصت على الحلفاء من أجل حمايتهم من أي تهديد إرهابي!، فهم يجيدون التنصت والفبركة والتبرير!.
أما كيف فُتحت الطريق للسيد سنودن للخروج من الولايات المتحدة؟ فهذا أمر غامض، وعلى العالم أن يحلّ هذه الألغاز. “جوليان” و”سنودن” شخصان عاديان، لم يكن أحد يسمع بهما من قبل، وكلاهما بالمصادفة هزيلان يشبهان بعضهما بالشكل وبالسلوك الفأري، ما يجعلنا نعتقد أننا اليوم أمام حقيقة أن للفئران البشرية دوراً في التاريخ! يحدّ من اندفاع الذئاب، دون أن يهدّد قوتها أو يمسَّ بها. بل على العكس، وإن أظهرت الذئاب غضباً إلا أنها ربما تبتسم داخل أوجارها معجبة بذكاء هذا الكائن الصغير! ومن يعرف كيف سيكون مصير العالم بين براثن الذئاب وأسنان الفئران في العصر النيوليبرالي؟!.