القدس في رحلة خاصة بين التوثيق والرواية
في الذكرى 52 لجريمة إحراق المسجد الأقصى المبارك، وفي سياق انتصارات سيف القدس على الغطرسة الصهيونية، وما تعنيه القدس في الذاكرة الحضارية للأمة بوصفها ذاكرة المكان، وما تعنيه في الوعي العربي المقاوم ثقافة وفكراً ووثيقة وصورة وكلمة، أقام الاتحاد العام للكتّاب والأدباء الفلسطينيين، بالتعاون مع وزارة الثقافة، ندوة بعنوان: “التوثيق بين الجهد البحثي والإبداع الأدبي- القدس أنموذجاً” في مكتبة الأسد الوطنية بدمشق وأدار الندوة سمر تغلبي.
رحلة من نوع خاص
وبعيداً عن أجواء التنظير، وبأسلوب بسيط، تحدث وزير التربية د. دارم طباع عن عملية التوثيق وأهميتها، وافتتح حديثه بقصة عن سبب تأليفه لكتاب “القدس مدينة السلام” الذي كان قد أصدره عام 2009، فقال: في عام 2008 أُعلنت دمشق عاصمة للثقافة، وأنا من عشاق دمشق، جمعت كل ما في ذاكرتي، وأخذت عدداً من الكتب التي أحبها، ودخلت في رحلة إلى دمشق، وكتبت “شام شريف”، وكانت الانطلاقة من دمشق القديمة إلى خارجها، كيف حملت هذه المدينة روح الحضارة إلى العالم العربي، وفي العام الذي يليه أُعلنت القدس عاصمة للثقافة العربية، فقلت في نفسي: ما هي القدس، نسمع كثيراً عنها ولا نستطيع أن نزورها، فأردت أن أزورها من خلال الكتب، وبدأت فعلاً بالزيارة فلم أجدها، وجدت فقط الصراع العربي الإسرائيلي، لم يتحدث أحد عن شوارعها وبيوتها وعن الناس الطيبين فيها، وعن الأنبياء الذين ركعوا وسجدوا في هذه المدينة، فبدأت أهتم بجمع الكتب القديمة التي دخلت إلى الحياة الاجتماعية بوصف الناس والحياة والمأكولات والمشروبات والبيوت والمساجد والكنائس، والتآخي الذي ساد هذه المدينة، فوجدت في جعبتي الكثير من الوثائق، بثثت فيها شيئاً من روحي، وبعضاً من الإبداع الأدبي الذي أزين به الصفحات بين فينة وأخرى.
ونقل د. طباع ما كتبه في مقدمة الكتاب: “القدس جزء من وجدان البشرية جمعاء، اصطفاها الخالق مدينة للسلام، وحوّلتها يد الإنسان إلى مدينة للحروب والصراعات، فترسّخت في أذهان العالم على أنها أرض متنازع عليها، أردت من هذا الكتاب أن أدخل مدينة السلام، أتفيأ تحت ظل زيتونها المقدس، أصلّي على عتباتها الطاهرة، وأشعل شمعة في محراب كنائسها، أجوب في شوارعها، أشرب في مقاهيها، أضحك ألعب وأعيش كما يمكن لأي إنسان في أي مدينة في العالم أن يعيش، نسمع القصائد والأغاني من هنا وهناك، ونتناول الحلوى والأطعمة المقدسية في كل زاوية من زوايا هذه المدينة الجميلة، إنها رحلة من نوع خاص لا تختصر بلون أو عرق أو جنس أو دين، هي رحلة الإنسان مع أخيه الإنسان إلى عرض السماء، مدينة الأنبياء.
ذاكرة ليست للنسيان
استأثرت مدينة القدس بدلالاتها التاريخية ومكوناتها الحضارية والإنسانية بالحيز الأكبر من اهتمام الكتّاب الفلسطينيين والعرب، حتى غدت من حيث القداسة والمكانة الدينية سمة دالة على ارتباط الكاتب بأرضه وشعبه، والذاكرة المتوارثة الحية التي تعد أولى القبلتين أحد تجلياتها وعلاماتها الأبرز، هذا ما تحدث عنه الأديب عمر محمد جمعة في ورقة بعنوان: “ذاكرة ليست للنسيان.. القدس في الرواية”، حيث قال: لقد أخلصت الرواية الفلسطينية لقضية القدس، حتى باتت روحها ومرتكزها وحاملها الأساسي في جملة مقولاتها المختلفة، إذ لم تكتف بالتأريخ لهذه المدينة المحتلة، أو استعادة الذكريات التي انتهكها الصهاينة وعصاباتهم، بل نقّبت في حكاياتها، وخلقت شخوصاً ترسم معالمها القادمة على أجنحة الحلم بالعودة إليها أحياء أو أمواتاً.
وتابع جمعة حديثه معدداً التجارب الكثيرة لروائيين فلسطينيين كتبوا عن القدس، والتي كان من أهمها ما كتبه محمود شقير في “نهاية ظل آخر المدينة”، وحسن حميد في “مدينة الله”، وعيسى بلاطة في “عائد إلى القدس”، ونبيل خوري في “حارة النصارى”، وديمة السمان في “برج القلق”، وغيرهم، وقدم عرضاً عن كل رواية مبيّناً ما ميّز هذه الروايات على اختلاف مراحل كتابتها وإصدارها، فهي تحدثت عن فترات زمنية للمدينة، وجسّدت المكان والزمان والشخوص واقعياً، وصوّرت الحياة اليومية للمقدسيين وتاريخهم في تلك المدينة العتيقة.
وعن أهمية الأعمال الروائية في التأكيد على مكانة القدس وهويتها العربية أكد جمعة أن هذه الأعمال أشارت إلى أن سياسة الإبعاد والاقتلاع التي مارسها الصهاينة ضد العرب المقدسيين كانت تزيدهم إصراراً على التشبث بتراب هذه المدينة المقدسة التي لا يملك أحد المساومة عليها، ولئن جهد الروائيون خصوصاً، والأدباء عموماً في شرح معاناتها، والظلم الذي لحق بأبنائها، فإن الشعب العربي يدرك أن القدس عائدة مهما استلزم ذلك من تضحيات، فهي ذاكرة غير قابلة للطي أو التفريط أو النسيان.
عُلا أحمد