هل الانسحاب الأمريكي من أفغانستان منظّم بالفعل؟
اختلفت التقديرات الدولية حول الانسحاب الأمريكي المتسرّع من أفغانستان، فمنهم من ذهب إلى أن هذا الانسحاب يجب أن يكون أكثر تنظيماً وضماناً لعدوم حدوث أي فراغ في المشهد الأفغاني، وهو ما ذهبت إليه بعض الدول الغربية التي تعدّ نفسها حليفاً أساسياً للولايات المتحدة، وينبغي بالتالي على واشنطن أن تنسّق معها عملية الانسحاب، ومنهم من ذهب إلى أن الانسحاب المتسرّع من أفغانستان كان متعمّداً لغاية في نفس الإدارة الأمريكية ذاتها، وأثار هواجس كثيرة حول هذا الانسحاب، وذلك مثل روسيا التي أعلنت على لسان أكثر من مسؤول أن لديها ريبة من طريقة الانسحاب هذه.
وبغض النظر عن ماهية الانسحاب الأمريكي من أفغانستان والغاية الحقيقية المتوخاة منه، فإنه تمّ بعد احتلال دام نحو عشرين عاماً لهذا البلد بذرائع أمريكية خالصة، وسواء قبلنا بحركة طالبان على الأرض أم لم نقبل، فإن وجودها في السلطة الآن أمر واقع لا يملك أحد قبوله أو رفضه، حتى لو اختلفنا في النتيجة على الطريقة التي ستتبناها طالبان لإدارة هذا البلد الذي يعتبر قلب آسيا الوسطى، والمعبر الرئيسي من شمال آسيا إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها، ويملك حدوداً طويلة مع دول أساسية في الإقليم، وبالتالي فإن التأثير هنا سيكون تأثيراً قوياً في دول الجوار.
المراقب للطريقة التي تم التعاطي فيها أمريكياً وغربياً مع استيلاء طالبان السريع على الحكم في أفغانستان في غضون أيام قليلة، تجتاحه الحيرة للوهلة الأولى من سقوط جيش في أيام معدودة ادّعت واشنطن أنها أنفقت عليه عشرات المليارات خلال عشرين عاماً لإعادة تأهيله، حتى إن هذا الجيش اختفى كلياً بعد استيلاء طالبان على السلطة ولم يعُد له وجود على الأرض وكأنه ذاب بين ثنايا الحركة أو تحوّل سريعاً إلى واقع آخر، وربما أدرج ضمن المتعاونين مع الجيش الأمريكي ليُعاد استخدامه في مكان آخر.
كل ذلك يقود إلى الاعتقاد أن الإدارة الأمريكية كانت تنتظر من انسحابها المتسرّع من هذا البلد نتائج أخرى غير التي جنتها على الأرض، فهي تدرك قبل غيرها أن انسحابها منه كان نتيجة حتمية وأن الاحتلال الأمريكي لن يستمر إلى الأبد، ولكنها كانت تراهن على واقع آخر يفرضه هذا الانسحاب سواء في الداخل الأفغاني أم على مستوى الإقليم بأكمله، إن لم نقل قارة آسيا كلها، فهي على مستوى الداخل الأفغاني ربما كانت تراهن على إشعال فتيل حرب أهلية تجعل من المستحيل نهوضه من جديد وبناء علاقات طبيعية مع جيرانه، وهذا يشير إليه صدق التنبّؤات الأمريكية بقيام تنظيم “داعش” بتفجيرات داخل العاصمة الأفغانية وفي أطراف المطار قبل وقوعها، ويعلم الجميع أن تقارير غربية كثيرة تحدّثت منذ أكثر من عام عن قيام واشنطن بنقل قادة من تنظيم “داعش” الإرهابي في العراق وسورية إلى أفغانستان عبر قواعدها المنتشرة في المنطقة، وأما بالنسبة إلى الدول الأساسية في الجوار فإن الإدارة الأمريكية كانت بالفعل تعوّل على رفض هذه الدول الصريح لاستلام طالبان الحكم في أفغانستان، فبالنسبة لروسيا تدرك أن هواجسها هي هواجس أمنية بالدرجة الأولى، وذلك لخشيتها من إمكانية انتقال عناصر إرهابية إلى أراضيها عبر الجوار الطاجيكي والأوزبكي والقرغيزي تحت ستار لاجئين، حتى لو أطلقت روسيا على ذلك تسمية “المتلازمة الأفغانية” التي ستؤثر في السياسة الأمريكية على المدى الطويل، وعلى مستوى الصين وباكستان سارعت الدولتان إلى الترحيب بحكم طالبان لأن ذلك ضروري لضم أفغانستان إلى مبادرة الحزام والطريق الصينية التي تعدّ أفغانستان عنصراً أساسياً فيها، وبالنسبة لإيران كانت واشنطن تعوّل على رفض إيران للحركة التي قتلت ثمانية من دبلوماسييها في مزار شريف سابقاً، غير أن طهران لم تبدِ قلقاً من استلام طالبان للسلطة.
وبالمحصلة، الانسحاب المتسرّع من أفغانستان حتى لو كان مخططاً له مسبقاً، فإن الإدارة الأمريكية كانت تعوّل كثيراً على التبعات المحتملة له، وخاصة عبر “تنظيم خراسان” الذي روّجت له سابقاً، حيث إن التوقعات الأمريكية بالتفجيرات قبل وقوعها وتحديدها للفاعل قبل أن يتبنى بنفسه الأحداث، تؤكد أنها تعوّل كثيراً على الفوضى في هذا البلد حتى يبقى بؤرة استنزاف لدول الجوار، وإن لم تقم بالإعلان عن ذلك صراحة، بمعنى أن واشنطن تريد لهذا البلاد أن يشغل دول الجوار أطول فترة ممكنة من الزمن.
طلال ياسر الزعبي