العزلة كتجربة إنسانية جديدة
“البعث الأسبوعية” ــ سلوى عباس
في هذا الزمن الذي يغرق فيه الفرد في الجموع والمجموعات عبر وسائط التواصل الرقمية، نراه يعيش عزلة من نوع آخر وتأخذ حياته معنى جديداً، حيث الإنسان منفرد مع هاتفه المحمول، بما يحتويه من تطبيقات تواصلية لا يملك من خيار لإيقاف تدفق أصوات الآخرين إليه وإزعاجهم له بالرسائل النصية ورسائل وسائل التواصل الأخرى من تويتر وماسنجر وواتس آب وتيلغرام، وغيرها، ولا منجاة له من هذا كله بالابتعاد عن هاتفه والعودة إلى ذاته وواقعه الحقيقي، فنحن بطبعنا كائنات اجتماعية نتكافل مع بعضنا البعض بالمحبة لنبدد اليأس ونتشارك لحظاتنا كلها بحلوها ومرّها، لكن بقدر ما تمنحنا العلاقات الاجتماعية من حبّ وصداقات وملء لأوقات الفراغ، تأخذ منا بالمقابل مساحة مهمة من ذواتنا وتهمش نظرتنا لأنفسنا؛ وإنها لمفارقة أن عزلة “كورونا” هي التي أجبرتنا على العودة لذواتنا، وأوصلتنا لنقطة عميقة في الروح، حيث امتلكنا الجرأة على مواجهة مخاوفنا، وساعدتنا على فهم مشاعرنا وضبط أنفسنا. وقد انقسم مبدعونا في نظرتهم إلى عزلة كورونا، وتفاوتت الرؤية لهذه العزلة بين أديب وآخر، فهناك من رأى فيها تجربة إنسانية جديدة، تعلن ولادة إنسان جديد، يجدد قيمه ويعيد تقييم كل مظاهر حضارته المعاصرة، وآخرون يرون أنها تجربة تضيف حبراً مختلفاً وأكثر واقعية لأقلام الروائيين والشعراء، لكن هذه العزلة الوبائية التي فاجأت الناس هي عزلة إجبارية، قسرية، عزلة أساسها الخوف من عدوّ غير مرئي، يهاجم فجأة وينتشر بشكل ضبابي غير واضح إلا لمن تصيبه عدوى هذا الفيروس.
من ناحية أخرى، نرى المثقفين والأدباء يلجؤون للكتاب في عزلتهم كصديق وفيّ وأليف ومحاولة جادة للاستفادة من الكتب والقراءات التي تحمل في جوهرها هدوء الذات، ورؤية الأشياء بشكل أنقى وأكثر سمواً، ولعل هذه الجائحة العالمية التي فرضت شروطها على البشر، قادرة على إنتاج أدب يختزل مشاعر إنسانية مرهفة، ومشاهد غير مألوفة وحكايات مختلفة، ففي التأمل العميق في الذات والآخر والكون، سيجد الكاتب ضالته التي ربما افتقدها في زحمة الحياة اليومية.
غير أنه وحسب حكايات التاريخ المشابهة لما نعانيه الآن من سيطرة الأوبئة والجائحات، سيبقى الأديب والمثقف يبحث عن غربته الدائمة التي يعيشها مع المجتمع، رغم أنه جزء من هذا المجتمع، لكن ما يختلف أنه تصبح لديه رؤية أبعد وأعمق، له عالمه الخاص به، يرى الأمور بطريقة تختلف عن الآخرين، وهذه القطيعة تؤدي إلى قطيعة بالحوار وبالفكر وبشعور مرير بالغربة، وتبقى عزلته وقود كتاباته، وربما هي وقود حياته برمتها، في محرابها فقط يتنفس الأديب والمثقف ويروي مشاهداته، وحكاياته، وسيرة أحلامه، وقد طرحت الجائحة على الإنسانية أسئلة كثيرة حول قدرتها على تدبير مصيرها المشترك. كما طرحت أسئلة حول العلم والمستقبل، وأسئلة عن الحب والجمال والموت والحياة، وهذه الأسئلة مجتمعة هي روح الفكر والعلم والأدب، روح الوعي المتفائل الذي يكشف تناقضاتنا فيدفعنا إلى الضحك والبكاء معاً، ويحفز عقولنا على البحث عن النهايات المعقولة لما يحدث وبخسائر أقل.
ولعل ما قرأته لأحد النقاد عن وباء “الكورونا” يلخص كل ما سبق من آراء إذ يرى أن أهم ما في الحجر الصحي من الجائحة أنه غيّر علاقة الكاتب بالزمان والمكان، فقد تقلص فضاؤه الحيوي إلى مكان الحجر فقط وهو في الغالب مكان الكتابة، أما الزمان فقد غدا أكثر اتساعاً من الناحية الفيزيائية إذ يتضاعف زمن الكتابة، وربّما كانت العزلة فضاء سالباً للبعض، لكنها بالنسبة إليه كانت فضاء خالباً لتثمير معرفته من خلال المزيد من القراءة، والمزيد من المشروعات، أمّا كورونا فلا يعنيه من أمره شيء لأنه صورة جديدة من صور التوحش الذي يفترس كوكبنا المسكين من الجائحات، جائحات القوى الكبرى التي تزداد توحشاً وتغولاً في امتهان الإنسان، والحروب التي تتقنع بشعارات زائفة، وخراب القيم الذي يتورم أكثر فأكثر، فهذه وسواها وكورونا سواء، لأنّها تستهدف أنبل ما في الوجود، إنسانية الإنسان.