مجلة البعث الأسبوعية

ثيودوراكيس الموسيقا السحرية وسؤال الأبدية.. لا بد للمرء من الالتصاق بجذوره مهما ابتعد ورحل!!

“البعث الأسبوعية” ــ غالية خوجه

للخلود أسرار يعرفها التجلّي بوعيه العارف، وأحد صور التجلي الإبداع في كافة المجالات الإنسانية والعلمية على مرّ العصور، ومنها الموسيقا التي تستكشفها القلوب المسافرة مع زقزقة العصافير ورفرفة الفراشات وخرير الماء والأمطار وتساقط أوراق الخريف، ورنين المحبة في هذه الحياة.

 

أبجدية العالم

لليونان مع البحر والإنسان والوجود والملاحم والأساطير والروايات والغيبيات حكايات موسيقية تغور في الوجدان الإنساني والتأريخي والثقافي، وتجدف في أعماق السماء. لذلك، لا بد من مراكب مجنّحة ونحن نصغي إلى أبجدية العالَم – الموسيقا – بكافة حضوراتها وأشكالها الكلاسيكية، والتقليدية، والشعبية التراثية، والمعاصرة؛ فمنذ “أبجدية أوغاريت الموسيقية” إضافة إلى الكتابية، والإنسان يبحث عن أول موسيقا سمعها مذْ كان في رحم أمه التي تشكّل تبعاً لإيقاع نبضها وقلبها، أي أنه يبحث عن الحب الصافي والمحبة النقية، وهذا ما حاول هوميروس إيصاله مع قيثارته وحوريات البحر “سيرانا” في ملحمته “الأوذيسا”، التي تحولت إلى فيلم عالمي من بطولة وغناء إيرين باباس، وكانت موسيقاه الأسطورية للموسيقار اليوناني فانجيليس، الذي أضاف لتجربته ملحمة موسيقية أخرى هي “النصر”، أو “دخول الجنة”، بينما لمعت موسيقا ميكيس ثيودوراكيس بعبقرية سحرية في أعماله السيمفونية والشعرية والملحمية والروائية والفلكلورية، سارداً من خلالها ألحاناً سماوية تنبع من أعماقه المثقفة وذاكرته المتجذرة وتحولاته الانعطافية التي أضافت – وبتنافسية إبداعية – المزيد من الآثار الخالدة للفن المثقف المحلي اليوناني والعالمي.

ثيودوراكيس الذي أمضى 96 عاماً مع الموسيقا المثقفة والمواقف العادلة لقضايا الشعوب ومنها القضية الفلسطينية، رحل في 2 أيلول 2021، ونعته وزارة الثقافة والسياحة اليونانية، ممثلة بالوزيرة لينا ميندوني:” اليوم فقدنا جزءاً من روح اليونان، ميكيس ثيودوراكيس المعلم والمثقف والثوري”.

 

رواية موسيقية راقصة

لكن، ماذا عن الموسيقا المعاصرة الأشهر التي أبدعها اليوناني المثقف ميكيس ثيودوراكيس؟

الجميع يرقص مع موسيقا زوربا بأبعادها الحماسية، والنفسية، والمكانية، وبتموجاتها المتآلفة مع موجات البحر في المشهد الفيلمي الذي يرقص فيه الممثل الشهير أنطوني كوين، كما ترقص الألحان ذاتها مع البحر والفضاء والذات والسماء.

 

“سيرتاكي”.. مشهد تشكيلي

الجميع يرقص تلك الرقصة اليونانية الفلكلورية “سيرتاكي”، منسجماً مع الإيقاعات الأقرب إلى مشهد تشكيلي يرسم نبضات القلب بحركاته الحيوية ليوزعها وروداً وحكمة وسعادة؛ وهذه الموسيقا شكّلت رواية موسيقية داخل رواية “زوربا اليوناني”، لمؤلفها اليوناني نيكوس كازنتزاكيس، والتي تحولت إلى فيلم عالمي في ستينيات القرن التاسع عشر (1960 – 1964)، من بطولة أنطوني كوين، إيرين باباس، آلان بيس، وإخراج اليوناني مايكل كاكويانيس.

ستظل موسيقا زوربا ورقصتها معلماً من معالم اليونان الموسيقية التي نشرتْ إيقاعاتها في العالم، مع حركاتها الراقصة التي يؤديها الراقصون الواقفون في صف واحد، مع ضرورة حفاظهم على مسافات معينة بينهم، تحددها ذراع كل راقص يضعها على كتف الراقص المجاور له، وتبدأ حركة الأرجل مع انطلاق الجميع باليسرى لتكون أمام اليمنى، ثم اليمنى أمام اليسرى، وهكذا تبادلياً، مع تحرك الصف الراقص كاملاً إلى اليسار واليمين بسرعات متناسبة مع إيقاعات موسيقا زوربا، ومن الممكن أن يؤدي بعض الراقصين حركات استعراضية مناسبة بين الخروج من هذا الصف الراقص والعودة إليه، لتزداد التشكيلات المشهدية حيوية وحماساً وتفاعلاً متناغماً.

لقد شكلت هذه الموسيقا منعطفاً ثقافياً وفنياً وسياحياً في اليونان، واتسعت لتسكن قلوب البشر في كافة أرجاء الأرض، وهذا دليل على ثقافة الموسيقار الإغريقية والإنسانية، إضافة إلى اشتباك الألحان مع الحالة النفسية العميقة لشخوص الرواية كأنموذج لكل إنسان يبحث عن الحكمة والصبر والخلاص.

 

السلّم الموسيقي الأسطوري

منذ البداية، وثيودوراكيس يحنّ إلى حضوره الأبدي موسيقياً، لذلك تنوعت أعماله عبْر تجربته المتفردة بين السيمفوني والقصائد والأغاني والخلفيات الموسيقية، واتسمت بعمقها الدلالي الأقرب إلى “روح الطبيعة الكونية”، وهذا أحد أسرارها في البقاء عبْر الأزمنة والأمكنة، إضافة إلى محاورتها لوجدانات الإنسان أينما كان وكيفما كان.. أوليست تجذبنا تلك الموسيقا بتأثيراتها السمعية والمخيلاتية، فتنبش في الذاكرة كما تنبش في الحلم؟ أوليست تنطلق من شخصيات رواية زوربا، لا سيما الأساسيتين” باسيل المثقف الممتلك للمال والكتب، وزوربا الذي كانت مدرسته الحياة؟ ألا تشكل هاتان الشخصيتان بضميريهما شخصية واحدة في النهاية تحاور أعماقها والوجود بطريقة تكاملية؟

زوربا شخصية واقعية قابلها كازانتزاكيس في إحدى رحلاته، لكنه أضاف إليها فنيات إبداعية لتظل على قيد الحياة مع عفويتها التي علّمت باسيل فن الحياة.

بدوره، تعامل ثيودوراكيس مع زوربا كشخصية متنقلة بين المهن والحياة، تجيد طريقة التأقلم بعفوية وبساطة وطيبة، وتجيد الرقص والقفز لعدة أمتار، فترتفع الحركة المشهدية مع منسوب اللحظة السعيدة القافزة من أعماق الحزن، كما ترتفع إيقاعات موسيقا زوربا، خصوصاً، وأن كازانتزاكيس ترك لشخصيته التعبير عن نفسه بحرية تأملية وفلسفية وظفها ثيودوراكيس بإبداعية مكثفة، ومن تلك الأقوال: “كيف يمكن لأحد أن يكون سعيداً في هذا الجسد المحكوم بالحسد والكراهية والكذب والخوف والألم والجوع والعطش والمرض والشيخوخة والموت؟”، ولشدة التماوج الداخلي بين باسيل وزوربا يرقصان رقصة الوداع إلى أن تصل رسالة إلى باسيل بعد سفره تخبره أن زوربا قد مات موصياً له بآلة السنتور.

لم يتوقف ثيودوراكيس عند موسيقا الفيلم، بل ألّف عام 1988 “باليه” بعنوان “إليكسيس زوربا”، وكانت مدينة فيرونا الإيطالية منصة عرضهِ الأولى.

 

كوفية فلسطينية وموسيقار يوناني

أيضاً، لم يكن ثيودوراكيس موسيقاراً فقط، بل سياسياً واعياً، خصوصاً في مجال حقوق الإنسان وقضايا الأوطان، لا سيما قضية فلسطين التي رمز إليها بكوفيتها التي يرتديها في أغلب حفلاته، كما أنه موزع النشيد الوطني الفلسطيني.

ولا بد من ذكر بعض أقواله عن الكيان الصهيوني: “هو أساس الشر في العالم”، مؤكداً في مرة أخرى: “اليونانيون لا يدركون بعد ما هي خطورة المفاهيم اليهودية المتعصبة، وما ينجم عنها من سياسة عنف وبطش وهمجية، فنحن أمة عريقة لها جذور عميقة في التاريخ البشري، بينما هم يسيرون على نهج لا يخرجون منه أو يتخيلون غيره”.

إضافة لذلك، كان ثيودوراكيس وطنياً لأنه كان من المقاومين للاحتلال النازي لوطنه اليونان في الحرب العالمية الثانية، وأصبح، لاحقاً، نائباً في البرلمان، إضافة إلى أنه كان من أبرز المعارضين للحكم العسكري في اليونان بين عامي 1967 و1974.

أبدع ثيودوراكيس في أعماله المتنوعة، ومنها فيلم “سيربيكو” عام 1973، وأغنية “ماوثاوزين ترايلوجي”، المرتكزة على قصائد أحد الناجين من معسكرات الاعتقال، كما فازت أعماله الموسيقية بعدة جوائز، منها جائزة بافتا لأفضل فيلم موسيقي عام 1970.

 

حياته إيقاعات راحلة

ثيودوراكيس اليوناني، المولود في 29 حزيران 1925، عانق الموسيقا منذ الصغر شغفاً، وكتب أول مؤلفاته الموسيقية وهو في الثالثة عشرة من عمره، وكان مناضلاً ومقاوماً وسجن عدة مرات، كما اعتبر من عداد الأموات في 26 آذار عام 1946، وتمّ نقله إلى المشرحة! ثم تمّ نفيه إلى جزيرة إيكاري 1947، ونقل عام 1948 إلى ماكرونسوس حيث عُذّب بشدة، وتمّ دفنه حياً مرتين.

ورغم كل هذه المعاناة التي تأخذ أبعادها العميقة في موسيقاهُ، وإلى جانب نضاله المتواصل، كان يطور ذاته موسيقياً بانتسابه إلى معهد أثينا العالي للموسيقى، إلى أن قدم امتحاناته عام 1950، ونال دبلومه في “الهارموني”، ثم تزوج ميرتو ألتينجلو عام 1953، وفي السنة التالية، حصلا على منحة للدراسة في المعهد العالي للموسيقا في باريس، وكان أن درّسه أهم موسيقارين فرنسيين هما أوجين بيجو وأوليفيه مسيان، ونالت إحدى مقطوعاته الموسيقية عام 1957 الميدالية الذهبية في مهرجان موسكو، ثم عاد إلى باريس، عام 1970، مواصلاً نضاله من خلال ترأسه للجبهة الوطنية اليونانية، وهناك التقى بالشاعر العالمي بابلو نيرودا، وبدأت صداقتهما النضالية والإنسانية.

لا بد للمرء من الالتصاق بجذوره مهما ابتعد ورحل.. وهكذا، عاد ثيودوراكيس إلى الموسيقا الشعبية اليونانية، وطلب من أخيه أن يكتب “ليبوتاكتس”، كما ألهمته أشعار يانيس ريتسوس الحائز على جائزة نوبل عالماً آخر، وألّف “إيبيتافيوس” التي نجحت نجاحاً عظيماً، مشكّلة ثورة ثقافية في اليونان ما زالت مستمرة إلى اليوم.

وأخيراً، تخلى ثيودوراكيس عن منصبه في البرلمان، ليتفرغ للموسيقا عام 1987، ويكتب أول أوبرا بعنوان “كوستاس كاريوتاكيس”، ويؤسس فرقة باليه باسم “زوربا” قدمت 600 عرض حول العالم، لكنه دعي عام 1989 لائتلاف مكون من اليسار اليوناني والحزب الشيوعي، وبعد الانتخابات، عام 1990، أصبح وزيراً دون حقيبة ليناضل ضد المخدرات ومن أجل التعليم. لكنه عام 1992 غادر الحكومة ليكون مديراً عاماً للكورال والأوركسترات السيمفونية في التلفزيون، كما أسس أوبرا ميديا عام 1991، ثم، وبطلب من خوان أنطونيو سامرانش رئيس اللجنة الأولمبية الدولية، ألّف موسيقا “كانتو أوليمبيكو” للألعاب الأولمبية التي أقيمت في برشلونة عام 1992.

وما لبث أن توقف عن العمل بعد وفاة أخيه ومعاناته مع مشاكل في التنفس، كما تخلى عن الوثائق التي يمتلكها لصالح مكتبة ليليان فودوري.

حاز وسام ضابط في مرتبة كتيبة الشرف من السفير الفرنسي في اليونان، ونال الدكتوراه الفخرية من جامعة مونريـال، سالونيك وكريت، وحاز جائزة سانت أندريه من مؤسسة سانت أندريه لشجاعته والتزامه بوطنه ومؤلفاته الموسيقية الهادفة للسلام بين الشعوب، ثم حاز جائزة “الموسيقي الدولي” لعام 2005 من هيئة اليونسكو، ورتبة قائد في مرتبة الشرف التي قدمها له وزير الثقافة الفرنسي في السفارة الفرنسية بأثينا عام 2007، أمّا الجائزة الأهم فهي التي سيظل ينالها من قبل شعوب الأرض وهي تستمتع بسعادة وحزن وتأمل لموسيقاه العميقة وهي ترتحل عبْر العصور من خلال أعماله التي نذكر منها على الأقل موسيقا لأكثر من 17 فيلماً، و18 أغنية من قصائد ريتسوس، و10 سيمفونيات، و6 أعمال أوبرا.