دراساتصحيفة البعث

هستيريا الحرب الباردة ما زالت حاضرة

ترجمة وإعداد: سمر سامي السمارة

من السهل إلقاء اللوم على الرئيس الأمريكي السابق ترامب فيما يتعلق بحالة الفوضى في التحالف عبر الأطلسي، لكن الواقع يُظهر أن 25 عاماً من “الاستثنائية الأمريكية” هي المسؤول الحقيقي، فبالرغم من اعتراضات حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا الغربية على التوسع العدواني لحلف شمال الأطلسي في ظل إدارتي كلينتون وبوش، عمّق الأخير حالة الفوضى بعد خطابه عن “محور الشر” عام 2002 ما مهّد الطريق لغزو العراق.

اعتبر كلّ من الرئيسين بوش وأوباما الحرب على أفغانستان، والتي لم تجلب سوى عقدين كاملين من الفوضى في جميع أنحاء جنوب غرب آسيا، “حرباً جيدة”، كما ساهم الرئيس جو بايدن في الانقسامات داخل التحالف عبر الأطلسي بفشله في استشارة حلفاء الولايات المتحدة بشأن الانسحاب من أفغانستان.

كان هوس واشنطن باستخدام القوة ضد ما يُسمّى “الدول المارقة” في العالم الثالث إحدى السمات الثابتة للخلاف بين الولايات المتحدة وأوروبا، فالإدارات الأمريكية الخمس الماضية، بما في ذلك إدارة بايدن، لا تعرف الفرق بين “الدولة المارقة” و”الدولة الفاشلة”، حيث كانت العناصر المهيمنة في إدارة بوش مهووسة بفكرة الدول المارقة، أو “محور الشر” الذي شمل إيران والعراق وكوريا الديمقراطية، وبدورها دعمت السيناتور هيلاري كلينتون خطاب بوش من خلال التأكيد على أن “كل أمة يجب أن تكون إما معنا أو ضدنا”!.

أحدثت القوة العسكرية الأمريكية الدمار في جميع أنحاء العالم، فقد أدت الإطاحة بصدام حسين إلى قيام تنظيم “داعش” الإرهابي، وأدى التدخل الأمريكي في أفغانستان إلى صعود شبكتي حقاني وحكمتيار، وإلى مزيد من العنف، كما أدى استخدام القوة في ليبيا عام 2011 إلى حالة من الفوضى في شمال إفريقيا.

كلفت الحروب الأمريكية، منذ الحادي عشر من أيلول، تريليونات الدولارات، وأدت إلى نزوح عشرات الملايين من اللاجئين، الأمر الذي عزّز النزعة القومية المتطرفة الخطيرة في السياسة الأوروبية. كما تسبّبت هذه الحروب منذ 11 أيلول، بسقوط الآلاف من القتلى من الجنود الأمريكيين، وآلاف الناجين المصابين بجروح خطيرة، وانتحار آلاف من قدامى المحاربين وأفراد الخدمة الفعلية، وعشرات الآلاف من القتلى المدنيين.

أصبح للبنتاغون دور بارز في صنع القرار، ويرجع ذلك جزئياً إلى فراغ السلطة الناجم عن تراجع وزارة الخارجية، ووجود جيل من ضباط الخدمة الخارجية الضعفاء. فقد عمل رايان كروكر سفيراً في أفغانستان والعراق وسورية ولبنان وباكستان والكويت، وهو بيروقراطي مختص، كما أنه مثال ممتاز على عدم أهمية وزارة الخارجية. وفي لقاء له مع صحيفة “نيويورك تايمز” قال: “إن انسحابنا من أفغانستان كان بسبب نقص الصبر الاستراتيجي”. وأضاف: “اختارت طالبان في عام 2001 القتال بدلاً من تسليم القيادة للقاعدة، وكأن العدوان لمدة عشرين عاماً على دولة في جنوب غرب آسيا ليس لها علاقة إستراتيجية بالولايات المتحدة”.

في الواقع، حدثت نقطة التحول في أفغانستان قبل عشرين عاماً عندما سمحت الولايات المتحدة لأسامة بن لادن بالهروب من تورا بورا بسبب انشغال إدارة بوش بغزو العراق وعدم استعدادها للسماح بتمثيل طالبان في مؤتمر بون في عام 2001. وعندما استسلم عناصر من الطالبان، سجنتهم الإدارة الأمريكية في باغرام وغوانتانامو، بدلاً من إعادة تأهيلهم. ومنذ ذلك الحين، لا تزال الإدارات الأمريكية تكذب على الرأي العام الأمريكي حول المجهود الحربي.

كانت الإدارات الأمريكية تتفاوض سراً مع طالبان، لكن كروكر لم يدرك حتى وقت قريب أن محادثات الدوحة لم تكن “مفاوضات سلام”، بل “محادثات استسلام”. فاتهاماته لبايدن بعدم “القدرة على قيادة الولايات المتحدة كقائد أعلى أمر شائن”.

غير أن ملاحظات كروكر غير المقيدة، يقابلها من الناحية العسكرية الجنرال ديفيد بترايوس الرئيس الأسبق للاستخبارات المركزية الأمريكية وللقيادة المركزية بالجيش الأمريكي، الذي أكد للرئيس أوباما أن مهمتهم العسكرية كانت تحرز تقدماً في أفغانستان وما زال يجادل بأنه كان ينبغي على الولايات المتحدة أن تحافظ على وجود عسكري هناك.

يعتقد بترايوس أن السياسة التي أفضت إلى أن يقوم الأفغان بالقتال على الخطوط الأمامية وتقديم الولايات المتحدة المساعدة من الجو كان من الممكن أن تكون مستدامة من حيث نفقات الدم والأموال. وبذلك يكون بترايوس قد فشل في إدراك محدودية مقدرة الجيش الأفغاني الذي انهار بسرعة، ودور القوة الجوية في التعامل مع المسلحين، الذي غالباً ما يقتل مدنيين أكثر من المقاتلين.

يخلص بترايوس إلى أن استمرار الوجود الأمريكي من شأنه أن يقضي على بعض المكاسب التي حقّقتها طالبان في السنوات الأخيرة، وهنا لا بد من التذكير بأن هذا هو الجنرال نفسه ذو الأربع نجوم، والذي أخبر إدارتي بوش وأوباما بأن طالبان مجرد “عصابات عرضية” ستعود في نهاية الأمر للتنظيم والانضمام إلى الحكومة الأفغانية، حيث كان عدم قدرة البنتاغون على الاعتراف بانضباط طالبان وتماسكها أمراً محورياً لفشل الولايات المتحدة في أفغانستان.

يُعتبر كروكر وبترايوس مثالين ممتازين للغطرسة التي أدخلت الولايات المتحدة حرباً عقيمة استمرت عشرين عاماً. ومع ذلك، فقد تفرد روبرت كاجان وهو من المحافظين الجدد، بثلاث صفحات في صحيفة “واشنطن بوست”، ليقول إن الغطرسة لم تلعب أي دور في دخولهم إلى أفغانستان.

تناسى السفير كروكر والجنرال بترايوس الاستشهاد بنظام التعذيب التابع لوكالة الاستخبارات المركزية في أفغانستان، وقتلى المدنيين جراء الغارات الأمريكية بطائرات بدون طيار، وتحويل أفغانستان إلى دولة مخدرات في ظل حكم كرزاي، أو الفساد الهائل الذي سيطر على الحياة في كابول.

من الجدير بالذكر، أن الانسحاب الأمريكي الفاشل من أفغانستان يضع إدارة بايدن في موقف دفاعي، الأمر يضمن استمرار الذهن العسكري الذي من شأنه أن يقوّض محاولات تخفيض الوجود العسكري الأمريكي في الخارج أو استخدام القوة، بالإضافة إلى ميزانية الدفاع الأمريكية المتضخمة.

إن استمرار “الحرب العالمية على الإرهاب” التي بدأها بوش ستعيق جهود الحزبين في الكونغرس لإلغاء التفويضات في عامي 1991 و2002 باستخدام القوة ضد نظام صدام حسين والحدّ من سلطات الحرب للبيت الأبيض، كما ينبغي على الكونغرس إعادة النظر في تفويض عام 2001 الذي أعطى الضوء الأخضر للحرب ضد “طالبان والقاعدة”، وهو الأساس القانوني للأعمال العدائية ضد العديد من المنظمات الإرهابية.

في الحقيقة، ينبغي على مسؤولي الأمن القومي الأمريكيين معرفة الفرق بين “الدول المارقة” و”الدول الفاشلة”، فغالباً ما تقاتل الولايات المتحدة “الدول الفاشلة”، بدون حلفاء، فمنتقدو بايدن يتعاملون بالفعل مع “طالبان” على أنها تقود دولة مارقة، على الرغم من أن قيادتها ليس لديها مصالح خارج حدودها.

كان المسؤولون الأمنيون الأوروبيون أكثر تساهلاً، وكثيراً ما جادلوا ضد استخدام الولايات المتحدة للقوة ضد الدول التي تعتبرها الولايات المتحدة فاشلة، لكن الإدارات الأمريكية المتعاقبة اتبعت ما تسميه بـ”الأمن التام” منذ انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991.

في حقيقة الأمر، يخفي قادة الولايات المتحدة بشكل مريب عن الرأي العام الأمريكي، إخفاقاتهم في اتخاذ القرار، ويبالغون بالحديث عن التهديدات لتبرير السياسات التي تعتمد على زيادة الإنفاق الدفاعي واستخدام القوة.

لقد حذّر نائب الرئيس جو بايدن الرئيس باراك أوباما في عام 2009 من “محاصرة” الجيش. لكن، يبدو أنه لا يوجد في إدارته من يشجع بايدن على وقف “الحروب الأبدية” المستمرة منذ ثلاثين عاماً. يجب ألا يمنع انتحاري واحد الولايات المتحدة من مناقشة الأخطاء التي ارتكبت باستخدام القوة في العراق وأفغانستان. ومع ذلك، فإن محاربي الحرب الباردة داخل وخارج الإدارة يجادلون بالفعل بأن الانسحاب العسكري الأمريكي من أفغانستان يسمح للولايات المتحدة بتوجيه تخطيطها وعتادها لمواجهة القوة الصينية عبر آسيا، فهستيريا الحرب الباردة لا تزال حيّة ومستمرة!.